الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 24 سبتمبر 2019 - 25 محرم 1441هـ

فكر ابن عربي في الميزان (3)

كتبه/ محمد القاضي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد تابع ابن عربي في القول بوحدة الوجود تلاميذ له أعجبوا بآرائه، وعرضوا لذلك المذهب في أشعارهم وكتبهم، ومِن هؤلاء: ابن الفارض، وابن سبعين، والتلمساني.

أما ابن الفارض فيؤكد مذهبه في وحدة الوجود في قصيدته المشهورة بالتائية:

لــهــا صـــلاتي بالـمقـام أقـيمـهــا                  وأشـــهــد أنـــهــا لـــي صـــلَّــت

كـــلانــا مـصـل عـابد سـاجـد إلى                   حقيقـة الجمع فــي كـل ســجــدة

وما كان لي صلى سواي فلم تكن                   صلاتي لغيري في أداء كل ركعة

وما زالت إياها وإيـاي لــم تــزل                    ولا فــرق بـل ذاتـي لـذاتي أحبت

فهو هنا يصرِّح بأنه يصلي لنفسه؛ لأن نفسه هي الله، ويبيِّن أنه ينشد ذلك الشعر لا في حال سُكْر الصوفية، بل هو في حالة الصحو، فيقول:

ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها               وذاتــي ذاتـــي إذا تــحـلـت تـجـلــت

والصوفية معجبون بهذه القصيدة التائية، ويسمون صاحبها ابن الفارض بسلطان العاشقين، على الرغم مما يوجد في تلك القصيدة من كفر صريح -والعياذ بالله-.

وأما ابن سبعين فمن أقواله الدالة على متابعة ابن عربي في مذهب وحدة الوجود: قوله: "رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك الله فقط، والكثرة وهم".

وهنا يؤكد ابن سبعين أن هذه الموجودات ليس لها وجود حقيقي، فوجودها وهم، وليس ثمة فرق بين الخلق وبين الحق، فالموجودات هي الله!

أما التلمساني -وهو كما يقول الإمام ابن تيمية: مِن أعظم هؤلاء كفرًا، وهو أحذقهم في الكفر والزندقة-: فهو لا يفرِّق بين الكائنات وخالقها، إنما الكائنات أجزاء منه، وأبعاض له، بمنزلة أمواج البحر في البحر، وأجزاء البيت من البيت، ومن ذلك قوله:

الـبـحــر لا شك عــنــدي في توحده                وإن تــعــــدد بالأمــــواج والـــزبــد

فــلا يغـرنك ما شاهدت مــن صــور                فالواحد الرب ساري العين في العدد

ويقول أيضًا:

فما البحر إلا الموج لا شيء غيره     وإن فــرقــتــه كــــثــرة الـمتـعــدد

ومن شعره أيضًا:

أحـــن إلـيـه وهو قلبي وهل يرى       ســواي أخــو وجـــد يـحـن لقلبه؟

ويحـجـب طرفي عنه إذ هو ناظري     ومــا بــعـــده إلا لإفــــراط قــربــه

فالوجود عند التلمساني واحد، وليس هناك فرق بين الخالق والمخلوق، بل كل المخلوقات إنما هي الله ذاته!

وقد وجد لهذا المذهب الإلحادي صدى في بلاد الغرب بعد أن انتقل إليها على يد برونو الإيطالي، ورَوّج له سبينوزا اليهودي.

جيور وانو برونو (1548-1611م): مفكر إيطالي، درس الفلسفة واللاهوت في أحد الأديرة الدينية، إلا أنه خرج على تعاليم الكنيسة فرمي بالزندقة، وفرّ من إيطاليا، وتنقل طريدًا في البلدان الأوروبية، وبعد عودته إلى إيطاليا وشي به إلى محاكم التفتيش، فحكم عليه بالموت حرقًا.

باروخ سبينوزا (1632 - 1677م): فيلسوف هولندي يهودي، هاجر أبواه من البرتغال في فترة الاضطهاد الديني لليهود من قَبَل النصارى، ودرس الديانة اليهودية والفلسفة كما هي عند ابن ميمون -الفيلسوف اليهودي الذي عاش في الأندلس- وعند ابن جبريل، وهو أيضًا فيلسوف يهودي عاش في الأندلس كذلك.

ومن أقوال سبينوزا التي تؤكد على مذهبه في وحدة الوجود:

- "ما في الوجود إلا الله، فالله هو الوجود الحق، ولا وجود معه يماثله؛ لأنه لا يصح أن يكون ثم وجودان مختلفان متماثلان".

- "إن قوانين الطبيعة وأوامر الله الخالدة شيء واحد بعينه، وإن كل الأشياء تنشأ من طبيعة الله الخالدة".

- "الله هو القانون الذي تسير وفقه ظواهر الوجود جميعًا بغير استثناء أو شذوذ".

- "إن للطبيعة عالمًا واحدًا هو الطبيعة والله في آن واحد، وليس في هذا العالم مكان لما فوق الطبيعة".

- "ليس هناك فرق بين العقل كما يمثله الله وبين المادة كما تمثلها الطبيعة، فهما شيء واحد".

قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله- بعد أن ذكر كثيرًا من أقوال أصحاب مذهب وحدة الوجود: "يقولون: إن الوجود واحد، كما يقول ابن عربي -صاحب الفتوحات-، وابن سبعين، وابن الفارض، والتلمساني، وأمثالهم -عليهم من الله ما يستحقونه-، فإنهم لا يجعلون للخالق سبحانه وجودًا مباينًا لوجود المخلوق، وهو جامع كل شر في العالم، ومبدأ ضلالهم من حيث لم يثبتوا للخالق وجودًا مباينًا لوجود المخلوق، وهم يأخذون من كلام الفلاسفة شيئًا، ومِن القول الفاسد من كلام المتصوفة والمتكلمين شيئًا، ومن كلام القرامطة والباطنية شيئًا، فيطوفون على أبواب المذاهب ويفوزون بأخسِّ المطالب، ويثنون على ما يذكر مِن كلام التصوف المخلوط بالفلسفة" (جامع الرسائل 1،  ص167).

الجذور الفكرية والعقائدية:

لقد قال بفكرة وحدة الوجود فلاسفة قدماء: مثل الفيلسوف اليوناني هيراقليطس، فالله -سبحانه وتعالى- عنده، نهار وليل، وصيف وشتاء، ووفرة وقلة، جامد وسائل، فهو كالنار المعطرة تسمى باسم العطر الذي يفوح منها.

وقالت بذلك الهندوسية الهندية: إن الكون كله ليس إلا ظهور للوجود الحقيقي، والروح الإنسانية جزء من الروح العليا وهي كالآلهة سرمدية غير مخلوقة.

وفي القرن السابع الهجري قال ابن عربي بفكرة وحدة الوجود، وقد سبق ذكر أقواله.

وفي القرن السابع عشر الميلادي ظهرت مقولة وحدة الوجود لدى الفيلسوف اليهودي سبينوزا، الذي سبق ذكره، ويرجح أنه اطلع على آراء ابن عربي الأندلسي في وحدة الوجود عن طريق الفيلسوف اليهودي الأندلسي ابن ميمون.

وقد أعجب سبينوزا بأفكار برونو الإيطالي الذي مات حرقًا على يد محاكم التفتيش، وخاصة تلك الأفكار التي تتعلق بوحدة الوجود. ولقد قال أقوالًا اختلف فيها المفكرون، فمنهم مَن عدُّوه مِن أصحاب وحدة الوجود، والبعض نفى عنه هذه الصفة (انتهى نقلًا عن مقال في صيد الفوائد، وهي من الندوة العالمية للشباب الإسلامي حول قضية وحدة الوجود).

وبالجملة: فعقيدة وحدة الوجود مخالفة العقيدة المسلمين الثابتة: أن الله خالق هذا العالم، وأن الخالق غير المخلوق، وأن الخالق له وجود يليق به، وأن المخلوقات لها وجود يليق بها، ومِن ثَمَّ فإن هذا المذهب يخالف الإسلام في إنكار وجود الله، والخروج على حدوده، ويخالفه في تأليه المخلوقات، وجعل الخالق والمخلوق شيئًا واحدًا، ويخالفه في إلغاء المسئولية الفردية، والتكاليف الشرعية، والانسياق وراء الشهوات البهيمية، ويخالفه في إنكار الجزاء والمسئولية، والبعث والحساب.