الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 23 مايو 2019 - 18 رمضان 1440هـ

رمضان وتغيير الأولويات

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن مِن أهم معاني التزكية التي تحصل للإنسان كلما اقترب مِن القرآن العظيم واجتهد في العبادة؛ أن تتسع إدراكات القلب ومعارفه وأحاسيسه بالوجود؛ فبدلًا مِن أن يعيش في دائرةٍ غاية في الضيق يدور فيها حول نفسه وأهله وماله وصراعاته وتنافساته، وتنافسات الناس السخيفة، واهتماماتهم الفارغة، يُولد قلبه مِن ظلمات الهوى والطبع والعادات والتقاليد وأوضاع المجتمع؛ ليرى واقعًا حقيقيًّا أمامه في خَلق السموات والأرض، ويرى فيهما ما ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- مِن أدلة ملكوت الله فيهما؛ فهو يراه وحده -سُبْحَانَه- الذي يُدَبِّر الأمر في هذا المُلك الواسع، الذي نحن فيه كالهباءة والذرة -أو أدنى مِن ذلك- بكل ما عندنا، وهو وحده -سُبْحَانَه- الذي تسمع له السموات والأرض، وتطيع وتخضع وتذل، مع شهود آثار الحب والود الذي يعلمه المؤمن عنها، كما دلَّ عليه قوله -تعالى- عن قوم فرعون: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) (الدخان:??)؛ فدَلَّ على أنها تبكي على المؤمن عند فِراقِه الدنيا؛ حزنًا على فوات العبادة التي أحَبَّتها منه، وحَنين الجذع لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دليلٌ على هذا الحُب أيضًا.

وهذا التأَلُّه مِن السموات والأرض لربها -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ظاهِرٌ لا يُفَكِّر عاقلٌ في المُنازَعَة فيه؛ أمَا تأملتَ قول الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258)؛ فلم يُفكر الملك لحظة في محاولة أمر الشمس أن تأتي مِن المغرب بدلًا مِن المشرق؛ فإنه معلوم ضرورة أن الشمس لن تطيعه لا هو ولا أهل الأرض جميعًا، وإنما تطيع أمر إلهها ومعبودها؛ ولذا بهت الذي كَفَـر.

ومِن هنا يظهر لك حقيقة قوله -تعالى-: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء:22)؛ قد نفكر في معنى لو كان فيهما أربابٌ إلا الله لفسدتا، ولكن يلزمنا أن نتفكر في معنى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)؛ فإن الطاعة والمحبة حاصلة مِن السماوات والأرض وما فيهن لخالقهما وبارئهما، إضافة إلى معنى تدبير الله لهما ولمَن فيهما؛ إذا انتبه الإنسان لهذا المعنى فإن أولويات حياته تتغير في اتجاه توجهه للحب والطاعة وذوق حلاوة العبادة لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وهذه تغلب أولويات يتصارع الناس حولها مِن المال والجنس والعلاقات الاجتماعية، والسلطة والرياسة، والمُلك والشهرة، فضلًا عن أولويات فِرق الكُرَة، والمسلسلات والأفلام والمسرحيات، والروايات والأغنيات الجديدة والحفلات، فضلًا عن أولويات مَن الذي سيكسب دور الدومينو والشطرنج، والطاولة والبلوت، ومَن الذي سيضع "لايك" على "البوست" أو المقطع، ومَن الذي سيكون الأكثر متابعة!

بالتأكيد سوف تتغير الأولويات إذا أيقن الإنسان ووصل إلى اليقين بشهود ملكوت السماوات والأرض؛ فيحصل له نصيبٌ مِن عطية الله لنبيه وخليله إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، التي بَيَّنَها بقوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:75)؛ فإن المؤمنين لهم نصيبٌ مِن حال الأنبياء، يتفاوت ما بين نصيبٍ كَوَزن الذرة أو "ميكروجرام" وأقل، ونصيبٍ كالجبال، ونصيبٍ أثقل مِن الأرض كلها، وما وراء ذلك (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء:21)، وهذا أمرٌ ظاهِرُه الوجوب.

"قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَتَراءَوْنَ أهْلَ الغُرَفِ مِن فَوْقِهِمْ، كما يَتَراءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغابِرَ في الأُفُقِ، مِنَ المَشْرِقِ أوِ المَغْرِبِ، لِتَفاضُلِ ما بيْنَهُمْ) (رواه البخاري)؛ فكم مِن ملايين السنين الضوئية بيننا وبين الكوكب الغابر البعيد في الأفق؟!

تخيل أن هذا القدر حاصلٌ بين أهل الجنة وأصحاب الغرف، وكل ذلك لتفاوت ما وقع في قلوبهم في الدنيا؛ على قدر يقينهم وشهودهم ملكوت السماوات والأرض، وقدر حبهم لربهم وطاعتهم وخضوعهم".

وإذا نظرت إلى الناحية الأخرى -أعني حال أهل الكفر والنفاق والعصيان والصد عن سبيل الله وأذية المسلمين، والاعتداء عليهم في دينهم ودمائهم وأعراضهم وأموالهم-: فلتنظر إلى دركاتهم في النار وتفاوتها، وشدة عذابهم على حسب ما قام بقلوبهم وما عملوا مِن أعمال، وعلى حسب ترتيب أولوياتهم في عداوة الدين وأهله.

إن هذا النظر يَلزم منه أن يغير الإنسان أولويات حياته، ويعيد ترتيبها؛ ليحقق لنفسه حقيقة العلم لا شكله؛ فكم مِن إنسان عنده شكل العلم، وهيئته هيئة العلماء، وعنده مِن المسائل التي يفحم بها الآخرين أو يتفاخر عليهم بها، وهو خالٍ من حقيقة العلم! تأمل قوله -سُبْحَانَه-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164).

وكذلك مِن أهم الأمور في ترتيب الأولويات: تحصيل حقيقة العبادة لا مجرد شكلها؛ فكم مِن إنسان في صورة العابد يحصي كم ركعة وكم ختمة، ويضرب المضاعفات في أعماله، وليس في قلبه حقيقة العبادة من الحب والذل والافتقار والتضرع لله -عَزَّ وَجَلَّ-!

كذلك تحصيل حقيقة الدعوة لا مجرد شكلها: فقد يكون الداعي مُفَوَّهًا، والخطبة بليغة، والإعجاب كثيرًا، ومع ذلك حقيقة الدعوة بالتغيير الحقيقي للإنسان باطنًا وظاهرًا مفقود أو ضعيف الأثر.

فرصة رمضان لا تعوض، حتى نستيقظ من سِنَة الغفلة والغرق في بحور هموم الدنيا، ونعيد ترتيب أولويات حياتنا الحقيقية التي هي الحياة عند الله -عَزَّ وَجَلَّ-.

والله المستعان.