الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 30 أكتوبر 2016 - 29 محرم 1438هـ

تركيا التي لا نعرفها (10)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد جاء فوز حزب العدالة والتنمية بانتخابات يوليو 2007م، وانفراده بتشكيل حكومته الثانية انعكاسًا لارتياح عامة الشعب التركي للحزب بزعامة "أردوغان"، ورضاهم عن إنجازاته وخطواته الإصلاحية، خاصة وأن "أردوغان" كان قد أعلن قبْل الانتخابات أنه سيعتزل العمل السياسي إن لم يفز حزبه بالانتخابات.

ولم يضيع "أردوغان" الفرصة؛ بل قفز بحزبه خطوة كبيرة للأمام إذ رشح رفيقه ووزير خارجية حكومته الأولى "عبد الله جول" لانتخابات الرئاسة في تركيا في أغسطس 2007م، أي بعد الانتخابات البرلمانية بشهر واحد، ليفوز "جول" بالانتخابات، ويصبح الرئيس الحادي عشر للجمهورية التركية، ويؤدي القَسَم الرئاسي في 28 أغسطس 2007 م في مفاجأة كبيرة؛ نظرًا لتاريخ "جول" في العمل السياسي الإسلامي مع أستاذه "أربكان" -رائد الإسلام السياسي في تركيا- ثم مع "أردوغان" في تأسيس وقيادة حزب العدالة والتنمية.

جهود حكومة "أردوغان" الثانية:

أثبت "أردوغان" أن ما حققه مِن قبْل لم يكن طفرة وقتية، بل خطوات أولى على طريق إنقاذ تركيا مِن الفساد والفقر والتأخر، والعودة بها إلى مصاف الدول الكبيرة المتقدمة.

ففي الجانب الاقتصادي واصل "أردوغان" انطلاقه:

- فقفز بإجمالي الناتج المحلي في عام 2010م إلى 960 مليار دولار، بعد أن تجاوز بحكومته الأولى أزمة البلاد الاقتصادية، وظل معدل النمو السنوي كما هو، لا يقل عن 6 % طوال فترة حكومته الثانية.

- شهدت الشركات التركية ازدهارًا استثنائيًّا مِن خلال توسعها في شتى أسواق العالم.

- حققت تركيا رقمًا قياسيًّا في إنتاج السيارات حيث بلغت مبيعاتها 509 ألف سيارة في عام 2010 م، بل واتجهت نحو صناعة سيارات محلية الصنع بنسبة مائة في المائة، وذلك بتشجيع الحكومة للتصنيع المحلي.

- انخفض التضخم إلى أقل نسبة منذ نحو نصف قرن، إذ بلغ 9و3 % في عام 2011م.

- تضاعفت الصادرات لتصل إلى 117 مليار دولار في عام 2010م.

- أصبح الاقتصاد التركي يحتل المرتبة السادسة عشر عالميًّا.

- أصبحت مدينة إسطنبول -العاصمة الاقتصادية لتركيا- المدينة السابعة والعشرين في الاقتصاد العالمي.

التهديد بحل حزب العدالة والتنمية:

رغم سياسة المهادنة التي اتبعها "أردوغان"، ورغم كل ما حققه لتركيا مِن إنجازات، لم يسلم مِن محاولة إغلاق حزبه ومنعه مِن العمل السياسي؛ إذ رفع المدعي العام الجمهوري في مارس 2008م -بتحريض مِن العلمانيين وخصوم "أردوغان" السياسيين- دعوى ضد حزب العدالة والتنمية الحاكم أمام المحكمة الدستورية العليا، مطالِبا بحَلِّه ومنع قياداته مِن العمل السياسي مدة خمس سنوات، بدعوى معاداة الحزب للعلمانية وتبَنّيه أجندة إسلامية خفية لإسقاط نظام "أتاتورك" العلماني.

وفي حملة دعائية مضادة اتهم الحزب خصومه بالعدوان على إرادة الأمة التي اختارت الحزب، وركزت الحملة على المردود السلبي الذي ستحدثه هذه الدعوى على نهضة تركيا، وعلى تعزيز مسيرتها الديمقراطية، وتشويه صورتها أمام الغرب، في الوقت الذي تتطلع فيه إلى الدخول في منظومته، خاصة وأن الحزب وصل إلى الحكم بإرادة شعبية ومِن خلال انتخابات حرة نزيهة.

وجاء الحكم برفض المحكمة الدستورية دعوى إغلاق الحزب، ولكنها وقّعت غرامة مالية باهظة على الحزب، وحذّرت الحزب مِن الحرمان من نصف التمويل الذي يحصل عليه من الخزانة العامة للدولة.

وأعلن "أردوغان" قبوله قرار المحكمة، وعزمه على مواصلة السير في طريق حماية القيم الجمهورية، ومِن بينها "العلمانية".

توجيه ضربة قوية للجيش:

تم القبض في أكتوبر 2008م على منظمة سِرّية تسمى (أرجنكون)، وتحويلها للقضاء، باعتبارها منظمة خفيّة ظلّت تتربص بالحياة السياسية في تركيا، وكانت وراء الكثير مِن حوادث الاغتيالات والتصفيات السياسية، وزرع متفجرات، وتنظيم مظاهرات.

ومِن بين المتهمين فيها ثلاثة مِن جنرالات الجيش المتقاعدين، وعدد مِن القيادات السابقة بالجيش والشرطة، وسبّبَ الزجّ بهم في قضية شبكة إجرامية تستخدم العنف لزعزعة استقرار البلاد إحراجًا شديدًا لقيادات الجيش، والذين أعلنوا تبرأهم مِن التنظيم، وأظهروا مساندتهم لحكومة "أردوغان"، خاصة وقد حرصت الحكومة على إعلام الرأي العام -أولاً بأول- بتفاصيل القضية، ليعرف الجميع حقيقة ما كان يدور في البلاد.

توجيه ضربة للإعلام العلماني:

واستغلالاً للموقف؛ قامتْ دوائر العدل والقضاء في أواخر عام 2008م -بتوجيه مِن "أردوغان"- بمساءلة مجموعة (دوجان)، القلعة الإعلامية الضخمة للمعارضة العلمانية، واسعة النفوذ، وأحد الخصوم الأشِدّاء لـ "أردوغان" وحكومته، وانتهى التحقيق بتوجيه الاتهام للمجموعة بالتهرب مِن ضرائب بلغت ثلاثة مليارات دولار؛ مما أدى إلى انهيار أسهمها.

توجيه ضربة لهيكل القضاء العلماني:

وللحد مِن صلاحيات السلطة القضائية والجيش، قام فقهاء -من حزب العدالة والتنمية- من القانونيين وخبراء الدستور بصياغة تعديلات دستورية لتحجيم صلاحيات المحكمة الدستورية فيما يتعلق بحل الأحزاب، وتم عرضها على الاستفتاء الشعبي العام، وتضمنت فيما تضمنت:

- رفع عدد قضاة المحكمة الدستورية العليا من 11 قاضيًا -وكان أكثرهم مِن العلمانيين- إلى 17 قاضيا يُعيّن البرلمان منهم ثلاثة.

- إعطاء المحكمة صلاحية محاكمة رئيس هيئة أركان الجيش وكبار قياداته.

- تمكين العسكريين الذين يحالون للتقاعد بتهمة الانتماء إلى التيار الديني مِن التقدم بطعون.

- إنهاء الحصانة القضائية التي يتمتع بها زعماء انقلاب 1980م.

وقد نالت التعديلات في الاستفتاء الشعبي نسبة 58%، بعد أن قاد "أردوغان" حملة شعبية لتمريرها في مواجهة مخاوف العلمانيين منها.

الانفتاح على العالم الخارجي:

ساعدت حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي التي حققتها حكومة "أردوغان" الأولى في قيام حكومته الثانية بمزيدٍ مِن الانفتاح على العالم الخارجي، والسعي إلى حل مشكلات تركيا مع جيرانها.

وقد اختار "أردوغان" مستشاره السياسي "أحمد داود أوغلو" وزيرًا للخارجية في حكومته الجديدة، بعد أن أُعجب بفكره ورؤيته للسياسة التي ينبغي على تركيا أن تتبعها؛ فبذل "أوغلو" جهودًا جبارة -وبأسلوب دبلوماسي جديد- رفعت تركيا إلى مكانة دولية متميزة.

توسعت تركيا في توطيد علاقاتها في البلقان والقوقاز والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، فقادت الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى، ولعبت دورًا مؤثرًا في الأزمة بيْن روسيا وجورجيا، ووقعت اتفاقيات تجارية مع الدول العربية، واستضافت قمة الناتو، وقمة منظمة المؤتمر الإسلامي، وشاركت في قمة الاتحاد الإفريقي الأوروبي، واختيرت كعضو مراقب في منظمة الاتحاد الإفريقي، ووقعت اتفاقية خاصة مع جامعة الدول العربية، ولم تجعل علاقتها الإستراتيجية مع أمريكا وجهود انضمامها للاتحاد الأوروبي مانعًا أو بديلا عن علاقاتها بدول العالم الأخرى بما فيها جارتها ومنافستها روسيا، إذ دخلت مع روسيا في شراكة جعلت روسيا ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا، وزاد حجم التبادل التجاري بينهما إلى 25 مليار دولار.

مبدأ تصفير المشكلات:

عمد (أوغلو) إلى سياسة الوصول بمشاكل تركيا مع جيرانها إلى درجة الصفر، لتنال بذلك الكثير مِن النتائج الايجابية، بما عَدّه المراقبون تصحيحًا لمسار تركيا الخارجي أذاب الكثير مِن جبال الجليد التي كانت بينها وبيْن جيرانها:

- فعادت العلاقات الطيبة مع سوريا، بعد سنوات مِن التوتر، وتم توقيع عدة اتفاقيات في المجالات الأمنية والاقتصادية والسياسية، وإلغاء التأشيرات بينهما.

- تحسنت العلاقات التركية اليونانية، خاصة فيما يتعلق بقضية النزاع في جزيرة قبرص، ومحاولة إعادة توحيد الجزيرة المقسّمة بين القبارصة الأتراك واليونانيين.

- استقبلت تركيا زعماء مِن العالم العربي والإسلامي والآسيوي والإفريقي، إلى جانب سياسيين ومسئولين كبار غربيين، نتيجة تحسن علاقات تركيا الخارجية، فصارت تركيا قوة إقليمية لها شأنها ودورها.

- بذلت تركيا جهودًا دبلوماسية كبيرة لتطوير علاقتها مع أرمينيا، وتجاوز الخلافات التاريخية بينهما.

أحمد داود أوغلو:

مِن مواليد عام 1959م، في محافظة (قونية) التركية، تخرّج مِن قسم العلوم السياسية بجامعة (البوسفور) في إسطنبول عام 1984م، حصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية عام 1990م، وعمل أستاذًا ثم رئيسًا لقسم العلوم السياسية في الجامعة الإسلامية في ماليزيا إلى عام 1996م، ثم محاضِرا في الجامعات التركية، وألّف الكتب والأبحاث حول كيفية تحقيق تركيا لمكانة دولية تليق بها، فاختاره "أردوغان" مستشارًا سياسيًّا له، ثم عيّنه وزيرًا لخارجية حكومته الثانية، فأثبت كفاءة عالية في أدائه.