كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيرى كثيرون أن من أسباب فشل الدول النامية في تحقيق التنمية الاقتصادية الحقيقية: أن سياسات الإصلاح الاقتصادي في تلك الدول لم يصاحبها الإصلاح المؤسسي القائم على تعزيز كل الممارسات الداعمة لما يُعْرَف بـ(الحوكمة)، والتي تعني في جوهرها تبني سياسات وآليات تُعَزِّز من الشفافية والمساءلة، وتؤدي إلى تحقيق الكفاءة الاقتصادية للدول في تحقيق الفاعلية المطلوبة في استغلال الإمكانيات الاقتصادية لتحقيق التنمية المستدامة.
فالحوكمة عملية تَهْدُف إلى زيادة المساءلة وآليات المحاسبة للحد من الفساد، وزيادة كفاءة المؤسسات العامة، والحد من العقبات التي تَحُول دون مشاركة جميع الفئات على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
وتعرف الحوكمة الرشيدة (الإدارة الجيدة الرشيدة) بأنها: (طرق شرعية وخاضعة للمساءلة وفعالة للحصول على السلطة العامة والموارد واستخدامها في السعي من أجل تحقيق أهداف اجتماعية مقبولة على نطاق واسع)، وهذا التعريف يَرْبِط الحوكمة الرشيدة بسيادة القانون والشفافية والمساءلة، ويُجَسِّد الشراكة المطلوبة بين الدولة والمجتمع وبين المواطنين، والتي تُعَد مفتاحًا لتحقيق التنمية المستدامة ورفاهية الإنسان.
وقد وَضَع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تعريفًا أشمل للحكم الرشيد (الحوكمة) بأنه: (ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية والإدارية لتسيير شؤون بلد ما على جميع المستويات. ويَشْمَل الحكم الآليات والعمليات والمؤسسات التي يَقُوم من خلالها المواطنون والجماعات بالتعبير عن مصالحهم، وممارسة حقوقهم القانونية، والوفاء بالتزاماتهم، وتسوية خلافاتهم)، وهو تعريف يُرَكِّز على الإنسان (والتنمية الإنسانية) بدلاً من الدولة.
الحاجة إلى الحوكمة:
تأكَّدَت الحاجة إلى الحوكمة في التسعينيات من القرن الميلادي الماضي عقب الأزمات الاقتصادية في شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا؛ إذ تَعَرَّضَت الشركات العملاقة هناك لمشكلات مادية، مما دَفَعَهَا إلى استخدام قواعد الحوكمة من أجل إنقاذها؛ حيث إن الحوكمة -أو الحكم الرشيد- باختصار منظومة لضمان الإدارة الرشيدة في الشركات والمؤسسات أو الحكم الرشيد على مستوى الحكومات والدول. وتَتَنَاوَل الحوكمة طبيعة العلاقة التعاقدية بين الأطراف المعنية وأصحاب المصالح بالشركة أو الدولة التي تُحَدِّد حقوق وواجبات كل منهم، وتَهْدُف إلى صياغة العلاقة بين كل المتدخلين على أساس مفهوم التعاقد والتشارك والتوافق.
وتُعَبِّر الحوكمة الرشيدة في الجانب السياسي عن اتجاه تقليل مركزية الدولة، الذي يَعْنِي إعادة ترسيم الحدود الفاصلة بين ما هو عام وما هو خاص من حيث المهام المنوط بها والسلطات المتاحة وموارد كل منهما، وهو ما يُفَسِّح المجال أمام تبنِّي المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية بوصفها قطاعًا أهليًّا مدنيًّا له أدوار تتكامل مع دور الدولة وتَسُد الفجوات في إستراتيجيتها لتحقيق هدف التشاركية؛ هذا فضلًا عن ظهور مستويات جديدة لاتخاذ السياسات، إذ إن غياب مشاركة الأفراد في صنع السياسات العامة -كأداة لضمان أداء حكومي متميز- يُعَد أحد أسباب النزاعات والقلاقل الداخلية في الدول، خاصة النامية منها.
والحوكمة أشمل من الحكم:
لذا تَتَعَدَّد التعريفات الخاصة بمفهوم الحوكمة وفقًا للمنظور الذي تَتَنَاوَله، فإذا كان الأمر متعلقًا بأداء الشركات بالأسواق، فتُعْرَف الحوكمة بأنها (مجموعة من العلاقات التي تَرْبِط بين القائمين على إدارة الشركة ومجلس الإدارة وحَمَلَة الأسهم وغيرهم من أصحاب المصالح بهدف تحقيق الشفافية والعدالة ومكافحة الفساد ومنح حق مساءلة إدارة الشركات لحماية المساهمين، والتأكد من أن الشركة تَعْمَل على تحقيق أهدافها وإستراتيجيتها طويلة الأمد)، أما على مستوى الدولة ومن منظور اقتصادي، فيمكن تعريف الحوكمة بأنها (أسلوب إدارة الموارد الاقتصادية والاجتماعية للبلاد من أجل تحقيق التنمية)، ويُعَرِّف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الحوكمة بأنها (ممارسة السلطة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو إدارية، في إدارة شؤون الدولة على جميع المستويات، أي: أنها تَتَضَمَّن الآليات والعمليات والمؤسسات التي يُفْصِح المواطنون من خلالها عن مصالحهم ويُمَارِسون جميع حقوقهم ويُنْهُون خلافاتهم). وتَهْدُف الحوكمة من وراء ذلك إلى توفير الخدمات الأساسية وتلبية احتياجات المواطنين من سكن ملائم وتوفير السلع والخدمات بشكل كفء في ظل مجتمع مستقر وآمن.
وهناك عدة شروط لتحقيق تلك الحوكمة الرشيدة:
منها: مشاركة جميع أطراف المجتمع، وكذلك إتاحة المعلومات بشكل يُحَقِّق الشفافية، والاهتمام بتنفيذ القانون على الجميع وتحقيق المساواة، واستفادة الفئات المهمشة من ثمار النمو في إطار توفير البيئة السياسية الداعمة والأمن والأمان والاستقرار؛ هذا بالإضافة إلى تنمية العناصر البشرية المتاحة داخل المجتمع من خلال توفير جميع الخدمات التعليمية والصحية بشكل كفء وعادل للجميع لتكوين رأس مال بشري قادر على الإنتاج والتطوير والابتكار والإبداع، ومِن ثَمَّ الإسهام في رفع معدلات النمو الاقتصادي.
وكلما توفرت هذه الشروط، ازدادت بالتالي كفاءة استخدام الموارد، وأيضًا ازدادت كفاءة المؤسسات، وازدادت ثقة المستثمرين في الاقتصاد، وفي الإسهام في رفع معدلات النمو الاقتصادي، ومن هنا أصبحت الدول تَسْتَهْدِف وضع آليات تطبيق الحوكمة ضمن خطتها التنموية بوصفها إحدى سبل رفع كفاءة وجودة المؤسسات، واستهدافًا لتوفير بيئة تَتَمَتَّع بالشفافية والمساءلة والحد من الفساد.
ومن هنا أيضًا، يُعَد الأخذ بمبادئ الحوكمة من قبل الحكومات مطلبًا شعبيًّا ومطلبًا دوليًّا قبل أن يكون مطلبًا تنظيميًّا، كما أن تقديم خدمات ذات جودة بكفاءة وفاعلية هو مطلب الأفراد قبل أن يكون هدفًا حكوميًّا.
الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد:
وتَرْتَبِط الحوكمة الرشيدة ارتباطًا وثيقًا بمكافحة الفساد، وتُمَثِّل الحوكمة الرشيدة أحد العوامل التي يمكن بها الحد من الفساد داخل المجتمعات، لذا فإن بعض المبادئ الأساسية للحوكمة الرشيدة هي أيضًا مبادئ لمكافحة الفساد، وهي: المشاركة، وسيادة القانون، والشفافية، والاستجابة، وتوافقية التوجه، والعدالة والشمولية، والفعالية والكفاءة، والمساءلة. وعندما لا تَلتَزِم الأنظمة السياسية بهذه المبادئ الثمانية، فمن الممكن أن تكون مؤسساتها غير قادرة على تقديم الخدمات العامة وتلبية احتياجات مواطنيها.
ويُعَد الفساد إحدى صور سوء الإدارة وضعف تطبيق آليات الحوكمة (ويُعَرَّف الفساد بأنه إساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة)، ويَقْتَصِر هذا التعريف على إساءة استخدام السلطة العامة، أي يُرَكِّز على فساد الجهاز الإداري للدولة، وهذا لا يَنْفِي وجود فساد بالقطاع الخاص، بل يُشِير إلى خطورة الفساد الحكومي الذي قد يُتِيح المجال لتزايد صور وأشكال الفساد بالقطاع الخاص، والعكس صحيح، فكلما ازدادت كفاءة وشفافية الجهاز الحكومي، أسهمت في الحد من الفساد داخل المجتمع بشكل عام وأيضًا الحد من فساد القطاع الخاص. كما يُعَرَّف الفساد بأنه (استغلال السلطة الموكلة لتحقيق المكاسب الخاصة)، وأنه (إساءة استغلال السلطة المرتبطة بمنصب معين بهدف تحقيق مصالح شخصية على حساب المصالح العامة).
وتَخْتَلِف بالطبع درجة وحدة ونوع الفساد من دولة إلى أخرى وفقًا للعديد من العوامل، منها الإطار التشريعي والقانوني ومدى قوة إنفاذ القانون وتوفر أطر من الشفافية والنزاهة والمساءلة والمراقبة والمتابعة والوعي بخطورة الفساد على المجتمع.
وتَتَعَدَّد صور الفساد وفق المنظور أو القطاع الذي يظهر فيه، فإذا تحدثنا -مثلًا- عن إساءة استعمال واستغلال أرباب المناصب السياسية لسلطتهم لتحقيق مكاسب خاصة؛ فهذا يُعَد فسادًا سياسيًّا، أما إذا كانت هناك ممارسات غير قانونية، كما في الممارسات الاحتكارية التي تَضُر بالاقتصاد وتُهَدِّد أنشطته الإنتاجية، فهذا يُعَد فسادًا اقتصاديًّا؛ هذا بالإضافة إلى الفساد المالي والإداري الذي يَقُوم به الموظفون في أثناء تقديمهم الخدمات العامة.
ومن منظور آخر: هناك الفساد العرضي، وهو الذي يَحْدُث في بعض الأحيان من قبل أرباب المصلحة أو السلطة وليس بشكل دائم، بعكس الفساد المنظم الذي يَتَفَشَّى فيه الفساد في كل قطاعات المجتمع. وهناك الفساد المؤسسي، وهو الذي يظهر بمؤسسة بعينها. وهناك تصنيف آخر للفساد وفقًا للدرجة الوظيفية، فيوجد الفساد الصغير، ويُقْصَد به الفساد الذي يَقُوم به صغار الموظفين والمسؤولين، وهو في أغلب الأحوال فساد غير منظم، ولكن قد يكون شرطًا لإنهاء بعض الإجراءات بشكل سريع، أما الفساد الكبير، فهو فساد كبار المسؤولين لتحقيق مصالحهم الخاصة، ويَكُون منظمًا، ويَنْتَشِر إلى حد كبير بالدول النامية التي تُعَانِي من غياب الأطر التنظيمية والقانونية فيها.
ومن آثار الفساد الضارة على الاقتصاد:
- هدر الإنفاق العام وسوء توزيعه، ومن ثم زيادة العجز المالي وتراكم الديون، وأيضًا عدم وصول الدعم إلى مستحقيه، ومن ثم زيادة معدلات الفقر، وتدني مستوى المعيشة، والشعور بعدم المساواة والتهميش، وقد يصل الأمر إلى تزايد حالات العنف والجريمة داخل المجتمع.
- ضعف الرقابة المالية والإشراف على النظام المصرفي، ومن ثم تزايد جرائم الاحتيال والهروب من سداد القروض، بما يُهَدِّد الاستقرار المالي للدولة.
- ضعف كفاءة الاستثمار العام وهروب الاستثمارات الأجنبية والخاصة، نتيجة ارتفاع تكلفة المعاملات، وعدم توافر البيانات والمعلومات، وعدم القدرة على تطبيق القانون على الجميع.
- عدم توافر المخصصات المالية بالقدر الكافي لإتاحة وتطوير الخدمات العامة، وخاصة تلك الخدمات التي تَتَعَلَّق بتنمية رأس المال البشري، مثل الخدمات التعليمية والصحية، مما يؤثر في تكوين رأس مال بشري يَقُود عملية التنمية.
- هجرة العقول المتعلمة والمبتكرة التي لم تَجِد لها مجالًا للعمل والإنتاج والتطوير، وتَبْحَث عن ذلك خارج البلاد.
مما سبق يمكن استخلاص أن الفساد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي، وتزايد حدة الاختلالات الهيكلية والفجوات الطبقية داخل المجتمع، مما يُشَكِّل تهديدًا للاستقرار الأمني والسياسي للدول؛ كما أن هذا الوضع هو النقيض تمامًا للبيئة التي تُطَبِّق معايير الحوكمة، وخاصة الرشيدة التي تَقُوم على مبدأ تطبيق القانون على الجميع دون استثناء، والقضاء على جميع صور التمييز، ومشاركة الجميع في عملية صنع التنمية، والاستفادة من ثمارها، ونشر الشفافية وإتاحة المعلومات بشكل كامل، وتطبيق آليات المراقبة والمتابعة والمساءلة والمحاسبة، وإدارة الموارد بشكل كفء، وتوفير للمواطن احتياجاته، وتَضْمَن جميع حقوقه، في إطار مؤسسات تَقُوم بدورها بدرجة عالية من الكفاءة والفاعلية.
مؤشرات الحوكمة الاقتصادية:
تُصْدِر العديد من المنظمات الجلية مؤشرات مختلفة لتقييم مدى جودة المؤسسات والحوكمة، وعلى الرغم من تعدد تلك المؤشرات وتنوعها، فمن أكثرها شيوعًا واستخدامًا، خاصة فيما يَتَعَلَّق بالحوكمة الاقتصادية:
- مؤشرات الحوكمة العامة: كمؤشر الحوكمة العالمي الصادر عن البنك الدولي.
- مؤشرات الفساد: كمؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية.
- مؤشرات تَتَعَلَّق بحوكمة الموازنة العامة: كمؤشر الموازنة الصادر عن الشراكة الدولية.
- مؤشرات تَتَعَلَّق ببيئة ممارسة الأعمال، وهي مؤشرات متخصصة تتناول الجوانب الاقتصادية المختلفة المتعلقة بالبيئة المناسبة لجذب الاستثمار وممارسة الأنشطة الاقتصادية بوجه عام، ومن أهمها: مؤشر ممارسة الأعمال، ومؤشر الحرية الاقتصادية الصادر عن مؤسسة هيريتدج.
وهناك العديد من التحديات التي تَعُوق مسار الحوكمة بشكل عام والاقتصادية بوجه خاص، والتي تَتَسَبَّب في تباطؤ معدلات التحسن في مؤشرات الحوكمة المختلفة أو تراجعها.
ومن أبرز تلك التحديات:
- دقة البيانات وتوافرها إذ تُعْطِي البيانات الدقيقة صورة جيدة لصانع القرار تُمَكِّنه من اتخاذ القرارات السليمة، كما أنها أداة أساسية للمتابعة والتقييم، كما أن إتاحتها تُعَد مؤشرًا للشفافية.
- البيئة التشريعية: فالحوكمة تَتَطَلَّب العديد من القوانين الداعمة لحوكمة الدولة، كالقوانين الداعمة للشفافية، وقانون حرية تداول المعلومات الذي يُعَد ركيزة أساسية لتعزيز الحوكمة والمساءلة.
الحوكمة الرقمية:
المراد بالإدارة الإلكترونية استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لإدارة الموارد التنظيمية داخليًّا وتحسين الجودة، وتُعَد الحوكمة الرقمية مفهومًا جديدًا نسبيًّا يَنْطَوِي على وضع وتنفيذ السياسات والإجراءات والمعايير لإدارة مجال المعلومات.
إن العالم الرقمي يُقَدِّم العديد من التحديات لهياكل الحكم التقليدية، مما يَسْتَلْزِم أطرًا جديدة قادرة على تعزيز التعاون والثقة والتضامن، وتَتَضَمَّن الحوكمة الرقمية الفعالة إدارة استخدام التقنيات الرقمية وعواقبها على المجتمع والسياسة والاقتصاد، وهو يَتَطَلَّب بناء المؤسسات التي تَضَع القواعد والسياسات لضمان نتائج مفيدة للمجتمع والدولة والاقتصاد.
الإدارة الإلكترونية:
الإدارة الإلكترونية هي استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لإدارة الموارد التنظيمية داخليًّا وتحسين جودة الخدمة، وتَنْطَوِي على التفاعل بين الحكومة والمواطنين والشركات لتعزيز الحكم الديمقراطي، وتُعَرَّف الإدارة الإلكترونية بأنها إطار مؤسسي لإدارة التحول الرقمي وإنتاج أشكال جديدة من التفاعل بين المواطنين والدولة.
الفرق بين الحكومة الإلكترونية والحوكمة الرقمية:
الحكومة الإلكترونية والحوكمة الرقمية مصطلحان يُسْتَخْدَمان لوصف استخدام التكنولوجيا في العمليات الحكومية. تُرَكِّز الحكومة الإلكترونية على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحسين تقديم الخدمات العامة وجعل الإدارة تَتَمَحْوَر حول المواطن، وتَهْدُف إلى تحقيق الرخاء الاقتصادي من خلال الحد من الفساد وتحسين الاتصالات بين الحكومة والمواطنين ورجال الأعمال، بينما تُشِير الحوكمة الرقمية إلى تصميم المؤسسات وآليات الحوكمة لحكم العالم الرقمي وحماية الفئات الضعيفة في المجتمع.
فالحوكمة الإلكترونية تَتَعَامَل في المقام الأول مع استخدام التكنولوجيا في تقديم الخدمات العامة، بينما الحوكمة الرقمية لها نطاق أوسع يَشْمَل حوكمة العالم الرقمي ككل.
بين المركزية واللامركزية:
مما لا شك فيه أن نظم العالم اليوم خليط من المركزية واللامركزية، فلا توجد نظم مركزية صرفة (كاملة)، حيث إن المركزية البحتة تَعْنِي الجمود بالسيطرة الكاملة للمركز على كل ما هو محلي، ولا توجد نظم لامركزية صرفة (كاملة)، حيث إن اللامركزية الكاملة تَعْنِي الانفصال أو الاستقلال الكامل للوحدة المحلية عن الدولة. وعليه، فتتحدد الدرجة بين المركزية واللامركزية وفقًا لمساحة الحرية الممنوحة للمحليات إداريًّا وماليًّا وسياسيًّا.
ويُقْصَد بالمركزية: تركز السلطات السياسية والإدارية والمالية على مستوى الحكومة المركزية، وهي موجودة في الأنظمة التي لا توجد فيها مجالس محلية منتخبة، وتَتَسَم بضعف المشاركة الحقيقية لمؤسسات المجتمع المدني في إدارة الشؤون المحلية، فضلاً عن ضعف آليات المشاركة والمساءلة كنتيجة لضعف الأطر الكفيلة بتحقيق النزاهة والشفافية في المجتمع.
وللامركزية في أي إقليم أو محافظة أربعة أركان أساسية:
الأول: ضرورة الإقرار بوجود حاجات خاصة لهذا الإقليم متميزة تَخْتَلِف عن الحاجات العامة للدولة، فالحاجات العامة تَتَوَلَّى الدولة إشباعها من خلال مرافق قومية، أما الحاجات التي تَمَس جزءًا محددًا من الدولة المرتبطة بمنطقة جغرافية معينة ويُلَائِمُهَا إنشاء مرافق محلية، فتتم تحت إشراف مباشر للسكان المستفيدين من الخدمة. أما الحاجات التي يتوفر لها الطابعان المحلي والقومي، فيتم توزيع أعباء القيام بها وإدارتها بين السلطة المركزية والهيئات اللامركزية.
الثاني: ضرورة توافر الشخصية المعنوية للوحدات المحلية، فالنظام يَظَل مركزيًّا ما دام لا يوجد على أرض الدولة سوى شخص إقليمي واحد، حيث إن اللامركزية تَتَمَيَّز بتعدد الأشخاص الإقليمية على أرض الدولة إلى جوار السلطة المركزية، وتُنْسَب تصرفاتها إليها لا إلى الدولة، بما يَتَرَتَّب عليه وجود ذمة مالية مستقلة للوحدات المحلية ووجود من يُعَبِّر عن إرادة الشخص المعنوي (المجلس المحلي).
الثالث: تولي هيئات محلية منتخبة ومستقلة إدارة المرافق والمصالح المحلية، ولها كامل الصلاحيات في إدارة شؤون الوحدات المحلية ومساءلة الوحدات التنفيذية، في ظل عدم تدخل الحكومة المركزية في شؤون تلك المجالس.
الرابع: خضوع تلك الهيئات المحلية في مباشرة اختصاصاتها لرقابة السلطة المركزية في حدود معينة، فإذا كانت اللامركزية المحلية تَقُوم على استقلال الهيئات المحلية، فإنها تَظَل مرتبطة بالسلطة المركزية بعلاقات رقابية معينة للحفاظ على وحدة الدولة. وتُحَدِّد مساحة الحرية الممنوحة من قبل الحكومة المركزية للهيئات المحلية المستقلة شكل العلاقات المركزية المحلية ودرجة وقوة الرقابة المركزية على الوحدات المحلية.
الحوكمة المحلية:
إذا كانت اللامركزية تَعْنِي تقاسمًا للسلطات بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية، فالحوكمة المحلية عبارة عن مساحة الحرية المتروكة لكل فاعل من الفاعلين على المستوى المحلي. ويَرَى البعض أن الحوكمة المحلية ما هي إلا مزيج من خمسة مكونات أساسية؛ هي: الدولة، والوحدات المحلية، والقطاع الخاص المحلي، والمجتمع المدني، والمواطن المحلي، في ضوء قواعد ومعايير متفق عليها.
فوائد التحول نحو الحوكمة واللامركزية:
الفوائد الإدارية:
- تخفيف العبء عن كاهل الحكومة المركزية.
- السرعة في إنجاز المهام.
- تحقيق الكفاءة في العمل الإداري.
- سهولة التنسيق بين أجهزة الدولة في الإقليم الواحد.
- تدريب المديرين في الأقاليم والمحافظات من خلال تفويض الصلاحيات لهم.
- تصغير حجم الأجهزة الحكومية لتكون أسهل في عملية إدارتها وسهولة القيام بالإصلاح الإداري.
الفوائد السياسية:
- دعم الديمقراطية المحلية.
- زيادة حرية التعبير عن الرأي.
- تقوية الروابط بين الحكام والمحكومين.
- إيجاد نوع من التجانس والتفاعل بين مختلف طوائف المجتمع وأجناسه، بما يُحَقِّق الأمن والاستقرار السياسي.
الفوائد الاقتصادية:
- تعزيز ثقة المستثمرين ورجال الأعمال بالتصرفات الحكومية.
- تحقيق الربط بين السكان المحليين والأنشطة الاقتصادية المحلية، وتوفير فرص عمل جديدة لهم.
- توفير مصادر تمويل محلية بديلة لمساندة المشروعات الصغيرة والمتوسطة وزيادة قدراتها التنافسية.
- تقديم المعونة الاقتصادية للقطاعات الفقيرة محليًّا التي تأثرت من السياسات الحكومية المختلفة.