الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (232) بناء إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- البيت وتأذينه في الناس بالحج (15)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ . ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ . حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 25-31).
فيه فوائد:
الفائدة الأولى:
جعل الله الكعبة البيت الحرام وما حولها من أرض الحرم وقفًا لعبادة الله، يستوي فيه المقيم المستوطن الذي هو من أهله، ومَن هو قادم زائر لعبادة الله في بلده الحرام، وأداء النسك الذي شرعه الله عز وجل لعباده؛ فلا يجوز شرعًا التفريق بين الناس في هذه البقعة بين مقيم وزائر، أو مستوطن، ولا يجوز منع أحدٍ من قصد البيت الحرام إلا المشركين بجميع أنواعهم؛ سواء كانوا من أهل الكتاب من اليهود والنصارى أم من عُبَّاد الأوثان، أو أي ملة من الملل غير ملة الإسلام؛ لقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 28).
وقد كان الأمر في بداية الإسلام عدم جواز منع أي أحد أمَّ البيت الحرام ولو كان مشركًا؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا) (المائدة: 2)، فخصص الله هذه الآية بآية براءة: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ . إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة: 17-18)، وفي القراءة الأخرى: "مسجد الله".
وقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)
وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب أن ينادي في الناس في حجة أبي بكر هو ومَن معه: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، أما أهل الإسلام فكل مسلم يقصد بيت الله الحرام لا يجوز منعه لا قبل وصوله إلى الأرض الحرام ولا بعد وصوله، ولا شك أن بعد وصوله أولى وأحرى أن لا يخرج منه؛ لقول الله -عز وجل-: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران: 97)، ولو كان قد ارتكب جرمًا خارج الحرم لما جاز إخراجه عند جماهير العلماء، ولكن يضيق عليه حتى يضطر إلى الخروج؛ لا يُبايع، ولا يؤاكل ولا يشارب، حتى يخرج فيؤخذ، وأما من ارتكب الجرم في داخل الحرم فهو الذي انتهك حرمة الحرم فيقام عليه الحد داخل الحرم، وقد جعل الله بركة عجيبة في هذه الأرض المباركة المقدسة في الأطعمة والأشربة والأرزاق، والقوى وصحة الأبدان، وكذلك سعة هذه المساحة لملايين من البشر لو قصدوها للحج والعمرة؛ فهي تتسع لهم بالبركة التي جعل الله فيها: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران: 96).
نقول: بهذه البركة التي جعلها الله فيها وما يليها، تسع المسلمين بأنواع التيسير من: الإقامة والحركة، والتنقل في جميع المشاعر؛ التي لو بذلوا جهدهم في التيسير فيها والبناء فيها لتتضاعف السعة السكانية؛ لكان فيها -بإذن الله- التيسير على حجاج بيت الله الحرام، ولم يثبت حديث منع البناء في الأرض الحرام وفي مِنى، وهو الحديث المذكور: أنهم سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا نبني لك منزلًا غدًا بمنى؟ فقال: لا، منى مناخ مَن سبق"؛ فهو حديث لم يثبت، وإنما كان المعنى المقصود منه هو: عدم منع السابق إلى مكان منها من النزول فيما سبق إليه، وإن كان هذا لا يحدث منذ أزمنة طويلة.
أما إن كان البناء لغرض التوسعة على حجاج بيت الله الحرام؛ فلا نشك في جوازه، نقول: لو بذلوا جهدهم في التيسير فيها والبناء فيها لاستيعاب أضعاف الأعداد الحالية؛ لوسعتهم -بإذن الله- دون مبالغة، ودون ضرر أيضًا، نسأل الله أن يلهم المسلمين ومن ولي أمر الأرض الحرام ما يوسعون به المناسك دون منع مَن قصد البيت الحرام للحج والعمرة والصلاة؛ فليس المنع هو الحل، مع النصوص الكثيرة من الكتاب والسُّنة في استواء الناس في الأرض الحرام ممَّن قصد النسك تعبُّدًا، بعيدًا عن الخلاف الذي ذكرناه في نقل التفسير في جواز بيع رباع مكة ودورها وإجارتها، فإن هذا لا يدخل فيه مَن أراد البيت الحرام والمشاعر لأداء النسك؛ لأن مكة فتحت عنوه، وأوقفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لم يضرب عليها خراجًا، وإنما جعلها وقفًا للمسلمين لأداء النُّسُك، وأهلها أولى بما سبقوا إليه منها، ولا يَمنعون غيرهم مما لم يسبقوا إليه.
وهذه الآية من أوضح النصوص في استواء الناس في الأرض الحرام؛ فلا يصح إهمالها، ولا يجوز لمسلم أن يتشبه بالكفار، ولو بغير قصد، ولو باجتهاد لم يُسبق إليه عبر العصور في منع المسلمين مِن قصد البيت الحرام لأداء النسك: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) (الحج: 25)؛ لذا نقول: مَن منع الناس فقد تشبه بمن لا يجوز التشبه بهم من الكفار، والحقيقة التي لا شك فيها: أنه حتى بالحساب بالمساحات، وحاجة كل فرد لمساحة معينة -مع أن هذا غير مطلوب شرعًا-، فإن مساحات المناسك مع تنوع أعمال النسك تتسع لما لا يقل عن عدة ملايين فوق ما يحصل الآن؛ فضلًا عن البركة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها-: (أَنْفِقِي، وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ) (متفق عليه).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.