الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 12 يوليه 2007 - 27 جمادى الثانية 1428هـ

عن الإرجاء ومسائل الإيمان

السؤال:

قد طالعنا كتاب فضيلتكم في الرد على الشيخ سفر ولنا بعض الملاحظات نرجو منكم توضيحها حيث إن هذا الأمر شغل الكثير عندنا حيث ذكرت فضيلتكم أن حديث الشفاعة ليس من المتشابه ص (405) ما نصه:

)لا يوجد أحد من أهل العلم يعد حديث الشفاعة من المتشابه، والمؤلف يزعم أن حديث الشفاعة متشابه يحتاج إلي إرجاعه إلى المحكم)

وقد وجدنا أن بعض أهل العلم يقول إن الحديث من المتشابه وهو الشيخ الراجحي في كتابه الأسئلة والأجوبة ما نصه:

(السؤال الثالث عشر :هناك بعض الأحاديث التي يستدل بها البعض على أن من ترك جميع الأعمال بالكلية فهو مؤمن ناقص الإيمان كحديث (لم يعملوا خيراً قط) وحديث البطاقة وغيرها من الأحاديث ؛ فكيف الجواب على ذلك ؟

الجواب :

ليس في هذه الأحاديث حجة لهذا القائل فمن ترك جميع الأعمال بالكلية وزعم أنه يكتفي بما في قلبه من التصديق كما سبق فإنه لا يتحقق إيمانه إلا بالعمل، وأما أحاديث الشفاعة وأن المؤمنين الموحدين العصاة يشفع لهم الأنبياء والأفراط والشهداء والملائكة والمؤمنون وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته ؛ يخرج قوماً من النار لم يعملوا خيراً قط ، قال العلماء : المعنى (لم يعملوا خيراً قط) أي زيادة على التوحيد والإيمان ولابد من هذا؛ لأن النصوص يُضم بعضها إلى بعض وقد دلت النصوص على أن الجنة حرامٌ على المشركين وقد ثبت في الصحيح أن النبي أمر منادياً ينادي في بعض الغزوات : (أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة) ولما أمّر أبا بكر في الحج في السنة التاسعة من الهجرة أرسل معه مؤذنين يؤذنون منهم أبو هريرة وغيره يؤذنون في الناس بأربع كلمات منها : (لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عهد فهو إلى عهده ومن لم يكن له عهد فهو إلى أربعة أشهر) وهذا يدل على أنه لا يمكن أن يدخل الجنة كافر قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) فهذه نصوص محكمة وهذا الحديث يُرد إليها والقاعدة عند أهل العلم : أن المتشابه يُرد إلى المحكم .

ولا يتعلق بالنصوص المتشابهة إلا أهل الزيغ كما قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) وثبت في الحديث الصحيح عن عائشة –رضي الله عنها– أنها قالت: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) وأما أهل الحق فإنهم يردون المتشابه إلى المحكم ويفسرونه به وهذا الحديث فيه اشتباه لكنه يرد إلى المحكم من النصوص الواضحة المحكمة في أن المشرك لا يدخل الجنة وأن الجنة حرام عليه.

وكذلك فضيلتكم قال إن عبارة (الأعمال شرط كمال) هذا هو قول جمهور العلماء (ص413)

ووجدنا أن الشيخ الراجحي عندما سئل عن هذا الأمر أي قول شرط كمال قال ما نصه في نفس الكتاب:

(السؤال الثاني: هناك من يقول: (الإيمان قول وعمل واعتقاد لكن العمل شرط كمال فيه) ، ويقول أيضاً: (لا كفر إلا باعتقاد)، فهل هذا القول من أقوال أهل السنة أم لا؟

الجواب :

ليست هذه الأقوال من أقوال أهل السنة، أهل السنة يقولون: الإيمان هو قول باللسان وقول بالقلب وعمل بالجوارح وعمل بالقلب، ومن أقوالهم: الإيمان قول وعمل، ومن أقوالهم: الإيمان قول وعمل ونية، فالإيمان لابد أن يكون بهذه الأمور الأربعة :

1- قول اللسان وهو النطق باللسان .

2- قول القلب وهو الإقرار والتصديق .

3- عمل القلب وهو النية والإخلاص .

4- عمل الجوارح .

فالعمل جزء من أجزاء الإيمان الأربعة، فلا يقال: العمل شرط كمال أو أنه لازم له فإن هذه أقوال المرجئة، ولا نعلم لأهل السنة قولاً بأن العمل  شرط كمال .

وكذا قول من قال: (لا كفر إلا باعتقاد) فهذا قول المرجئة، ومن أقوالهم: (الأعمال والأقوال دليلٌ على ما في القلب من الاعتقاد) وهذا باطل، بل نفس القول الكفري كفر ونفس العمل الكفري كفر كما مر في قول الله تعالى (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) أي: بهذه المقالة.

السؤال الثالث: هل الأعمال ركن في الإيمان وجزء منه أم هي شرط كمال فيه؟

الجواب :

الإيمان قول باللسان وقول بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح كما سبق .

ولا يقال: إنها شرط كمال أو إنها خارجة عن الإيمان أو إنها لازم من لوازم الإيمان أو من مقتضى الإيمان أو هي دليل على الإيمان إذ كل هذه من أقوال المرجئة (.

وكذلك ذكر الدكتور محمد أبو رحيم في كتابه (حقيقة الإيمان عند الألباني) ما نصه: (الإيمان عند الشيخ -رحمه الله- قول واعتقاد وعمل والعمل شرط في كماله)

هذا هو تعريف الإيمان عند الشيخ الألباني -رحمه الله- الذي لا مَحيد عنه عند من يعقل العربية ويعرف كلام العرب.

ولنا مع تعريف الشيخ هذا وِقْفَةٌ مِن ثلاثة جوانب:

الأول: من وافق الشيخ -رحمه الله- في العمل في مسمى الإيمان.

الثاني: مقابلة تعريف الشيخ -رحمه الله- بأقوال السلف.

الثالث: من أين أُتي الشيخ -رحمه الله-؟

الجانب الأول:

من وافق الشيخ -رحمه الله-؟

لم أجد أقرب لفهم الشيخ -رحمه الله- للعمل في مُسمّى وأنه شرط في كماله غير فهم الحافظ ابن حجر

-رحمه الله- من قول أبي عذبة الحسن بن عبد المحسن، حيث قال: "اعلم أن العمل ليس من أركان الإيمان خلافاً للوعيدية وليس ساقطاً بالكلية حتى لا تضر المؤمن معصيته خلافاً للمرجئة"

وبيّن البيجوري؛ أن المختار عند أهل السُّنة والجماعة (وهم عنده الأشاعرة) في الأعمال الصالحة أنها شرط كمال الإيمان.

مقابلة تعريفه -رحمه الله- بأقوال السلف:

لقد تنوعت عبارات السلف في تعريف الإيمان، ومع ذلك لم يُنقل عن أحدهم القول إنّ الإيمان قول واعتقاد وعمل والعمل شرط في كماله.

فمِن السَّلف من قال: الإيمان: قول وعمل، ومنهم من قال: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، ومنهم من قال: قول وعمل ونية، ومنهم من قال: قول وعمل ونية وعمل بالسُّنة. فأين نجد قولاً واحداً عن أئمة السلف أن الإيمان: قول واعتقاد وعمل، والعمل شرط في كماله؟!

 

ولقد وضَّح شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- المقصود من عبارات السلف السابقة فقال: “إن من قال من السلف الإيمان: قول وعمل؛ أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن زاد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يُفهَمُ منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السُّنة؛ فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السُّنة وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الردّ على “المرجئة” الذين جعلوه قولاً فقط، فقال: بل قول وعمل، والذين جعلوه: أربعة أقسام فسّروا مرادهم كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقالوا: قول وعمل ونية وسُنَّة. لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سُنُّة فهو بدعة

والسلف مع قولهم بركنية العمل في مسمّى الإيمان لا يجعلون ذلك متعلقاً بآحاده وأفراده كما هو الشأن عند الخوارج والمعتزلة، وإنما حصروا ذلك بجنسه وأما آحاده وأفراده فقد فصَّلوا القول فيها؛ فمنها ما هو شرط في صحة الإيمان ومنها ما هو شرط في كماله والفيصل في ذلك نصوص الكتاب والسُّنة وفهم السلف أنفسهم.

مما تقدم نقرر الحقائق التالية:

أولاً: إن للشيخ -رحمه الله- منهجاً مستقلاً في فهم العمل في مسمى الإيمان مغايراً لفهم السلف.

ثانياً: إن موافقة الشيخ -رحمه الله- للسلف في القول بدخول العمل في مسمى الإيمان لا تعدو اللفظ المجرّد، أما في الحقيقة والثمرة فالخلاف قائم لما يلي:

أ- إن القول بدخول العمل في مسمى الإيمان حقيقة لازمه أن يكون جزءاً من الماهية وركناً فيه، وقد التزم السلف ذلك ولم يلتزم به الشيخ -رحمه الله-.

ب- إن القول بالشرطية لازمه أن يكون العمل خارجاً عن الماهية، لكن الشيخ -رحمه الله- لم يلتزمه، بل قال بدخوله (حقيقة) دخول شرط كمال، وهذا مخالف لتعريف الشرط.

ج?- إن الشيء إما أن يكون ركناً في ماهية شيء ما وإما أن يكون شرطاً له، فإن كان ركناً فلا يمكن أن يكون شرطاً لذات الشيء الذي هو ركن فيه، وكذا لو كان شرطاً له فلا يمكن أن يكون جزءاً من ذلك الشيء الذي هو شرط له لأن الشرط خارج عن الماهية.

اعتراض مقبول ولكن...

قد يقول قائل: إن الشيخ -رحمه الله- وافق السلف في زيادة الإيمان ونقصانه.

فيقال له: هذا حق؛ فقد قال -رحمه الله- في تعليقه وشرحه على العقيدة الطحاوية راداً على الحنفية الماتريدية: “فإن الحنفية لو كانوا غير مخالفين للجماهير حقيقة في إنكارهم أن العمل من الإيمان، لاتفقوا معهم على أن الإيمان يزيد وينقص وأن زيادته بالطاعة ونقصانه بالمعصية.

لكن ينبغي أنْ يُتَفَطَّن إلى أصل المسألة، فإن مبنى القول بالزيادة والنقصان عند الشيخ -رحمه الله- يختلف عن مبنى القول ذاته عند السلف، لأن قول كل منهما ناشئ عن فهم العمل في مسمى الإيمان.

إن القول بالزيادة والنقصان من لوازم القول بركنية العمل في مسمى الإيمان، كما أنه لازم من لوازم القول بشرطيته شرط كمال.

لقد التزم السلف ذلك كما التزم القائلون بشرط الكمال هذا اللازم، ها هو البيجوري يقول بعدما عدّ الأعمال الصالحة من شرط الكمال: “فالتارك لها أو لبعضها من غير استحلال أو عناد للشارع أو شك في مشروعيته فهو مؤمن لكن فوّت على نفسه الكمال، والآتي بها ممتثلاً محصلٌ لأكمل الخصال 

فقوله -رحمه الله-: “...فهو مؤمن لكن فوّت على نفسه الكمال والآتي بها ممتثلاً محصل لأكمل الخصال” يؤكد ما قلناه.

ثم اقرأ قول الحافظ -رحمه الله- في الفتح (1/46): “اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان فأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ القول بالزيادة والنقص”.

الجانب الثالث:

من أين أُتِي الشيخ -رحمه الله-؟

يرى بعضهم أن الشيخ -رحمه الله- في قوله إن الأعمال شرط في كمال الإيمان قد تأثر بما ورد عن الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في فتح الباري (1/112) وبما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- في كتابه الإيمان ص66 حيث قال: “فالأمر الذي عليه السُّنة عندنا ما نَصَّ عليه علماؤنا، مما اقتصصنا في كتابنا هذا، أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً، وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها وأعلاها الشهادة باللسان كما قال رسول الله في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءاً، فإذا نطق بها القائل، وأقرّ بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه بالاستكمال عند الله، ولا على تزكية النفوس، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى ازداد به إيماناً.

أما ما ورد عن ابن رجب -رحمه الله- فقوله: “ومعلوم أنّ الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب على شهادة اللسان، وبهما يخرج من يخرج من أهل النار فيدخل الجنة.

قلت: والأظهر عندي تأثر الشيخ -رحمه الله- بفهم الحافظ ابن حجر -رحمه الله- لقول السلف في الإيمان: "اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان"، قال -رحمه الله-: “وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله.

وسبب هذا الترجيح يعود إلى:

أ- أن الرأي الأول يقوم على الفهم والاحتمالية.

ب- أن منطوق كلام الشيخ -رحمه الله- يطابق منطوق كلام الحافظ ابن حجر -رحمه الله-.

ج- ثم لمكانة الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عند الشيخ في قواعده وأصوله الحديثية.

فهم الحافظ ابن حجر في الميزان:

مهما يكن من أمر فإن فهم الحافظ ابن حجر -رحمه الله- للعمل في مسمى الإيمان ليس فيصلاً في المسألة للاعتبارات التالية:

أ- لمعارضة فهم الحافظ -رحمه الله- فهم السلف فإنهم يرون ركنية العمل في مسمى الإيمان لا شرطيته، ومع قولهم هذا فإنهم لا يجعلون ذلك متعلقاً بآحاده وأفراده كما هو الشأن عند الخوارج والمعتزلة وإنما حصروا ذلك بجنسه، أما آحاده وأفراده فقد فصل السلف القول فيه. فمنها ما هو شرط في صحة الإيمان ومنها ما هو شرط في كماله والفيصل في ذلك نصوص الكتاب والسُّنة وفهم السلف أنفسهم.

ب- ولما عُرِف عن ضبط الحد المنطقي للمحدود بأركانه المميزة له عن غيره لا بشروطه. فأركان البيت في المحسوسات، والإيجاب والقبول في البيع في المشروعات، والقول والعمل في الإيمان -عند السلف- في الاعتقادات.

ج?- لما عهد عن شرّاح الحديث المتأخرين عدم تحريرهم -غالباً- لمسائل الاعتقاد على منهج السلف الصالح.

وكذلك قول أهل العلم الآتية

قال أبو ثور -رحمه الله- ملزماً المرجِئَة: “أرأيتم لو أنَّ رجُلاً قال: أعملُ ما أمر الله به ولا أُقِرُّ به، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم، فإن قال: أُقِرُّ بجميع ما أمر الله به ولا أعمل منه شيئاً أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: ما الفرق! وقد زعمتم أن الله عزّ وجلّ أراد الأمرين جميعاً، فإنْ جاز أنْ يكون بأحدهما مؤمناً إذا تَرَك الآخر جازَ أن يكون مؤمناً إذا عمِل ولم يقرّ لا فرق بين ذلك

. قال الآجري -رحمه الله-: “فالأعمال -رحمكم الله تعالى- بالجوارح، تصديق للإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمل جوارحه، مثل الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد وأشباه هذا، ورضِيَ من نفسه بالمعرفة والقول لم يكُن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه العمل بما ذكرنا تصديقاً منه لإيمانه.. إن الإيمان لا يكون إلا بالعمل.. خلاف ما قالت المرجِئة الذي لعب بهم الشيطان.

فاقرأ قول سفيان بن عيينة، قال -رحمه الله-: “المرجئة سموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم وليس سواءً لأن ركوب المحارم متعمداً من غير استحلال معصية، وترك الفرائض من غير جهلٍ ولا عُذْر كُفْر.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل -رحمهما الله-: حدثنا سويد بن سعيد الهروي، قال: سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال: يقولون الإيمان قول، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل، والمرجئون أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مُصِراً بقلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم وليس سواءً؛ لأن ركوب المحارم من غير الاستحلال معصية وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر.. فركوب المحارم مثل ذنب آدم وغيرهم من الأنبياء، أما ترك الفرائض جحوداً فهو مثل كفر إبليس، وتركها على معرفة من غير جحود فهو مثل كفر علماء اليهود.

 

 

الجواب:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

1 - قولي "إنه لا يوجد أحد من أهل العلم يعد أحاديث الشفاعة من المتشابه" عنيت به أهل العلم المتقدمين من أئمة السنة فإنه لم يزل أهل السنة يردون بهذه الأحاديث على الخوارج والمعتزلة من جهة، وعلى المرجئة من جهة؛ إذ أن الوعيدية والمرجئة كلاهما يردان أحاديث الشفاعة وخروج عصاة الموحدين من النار؛ لأن كلاً منهما لا يرى خروج أحد ممن يدخل النار منها، إذ المرجئة يقولون أن أصحاب المعاصي كاملو الإيمان فلا يدخلون النار، والوعيدية يخلدونهم في النار. فالأحاديث من هذا الجانب محكمة لا متشابهة. أما كلام الشيخ الراجحي فهو يرد على من يقول أنه يصح إيمان من ترك جميع الأعمال بالكلية، وزعم أنه يكتفي بما في قلبه من التصديق، ولا شك أننا وكل أهل السنة نقول أنه لابد من أعمال القلب الواجبة ولا يكفي التصديق المجرد عن الانقياد والحب وغيرها. والشيخ يقول أيضاً: "قال العلماء لم يعملوا خيراً قط -أي زيادة على التوحيد والإيمان-"، ونحن نقول ذلك فعلاً، فلابد من ترك الشرك ونواقض الإسلام، فمن سمى ذلك عملاً فخلافنا معه لفظي لأننا نقول أن من لم يترك الشرك فهو مخلد في النار (بعد قيام الحجة بالطبع). فإذا كان قصد الشيخ من أن هذا من المتشابه بهذا الاعتبار فنعم، وليس من جهة أن لفظ (لم يعمل خيراً قط) دلالتها على أن ترك الأعمال الظاهرة مع وجود أصل الإيمان في قلبه دلالة غير صحيحة، فهذا لا نوافق عليه سواء قاله الشيخ الراجحي أم لم يقله، ولا نزاع بين أهل السنة أن الأحاديث إنما تدل على خروج عصاة الموحدين وليس المشركين من النار ولو لم يعملوا (أي عصاة الموحدين) خيراً قط.

 2- أما مسألة أن الأعمال شرط أم جزء من الماهية فهذا لابد أن يتبين فيه أمران:

 (1) الفرق بين استعمال كلمة (الشرط) في اللغة والشرع وبين اصطلاح المتكلمين وأن كثيراً من العلماء يستعملونها في المعني اللغوي والشرعي للكلمة ويقصدون بها ما هو جزء من الماهية وليس خارجاً عنها كاصطلاح المتكلمين

(2) إذا صرح بعض أهل العلم بأن العمل جزء من الإيمان ثم قال هو شرط كمال فلا يصح أن يحمل كلامه على المعنى الاصطلاحي فيقال قد أخطأ لأنه أخرج العمل من الإيمان لأنه جعله شرطاً، بينما هو قبلها بجملة أو جملتين يصرح بأنه من الإيمان، فعندما نقول إن العمل شرط كمال لا نعني بأنه خارج عن الماهية وأنه ليس من الإيمان، بل الشيخ الراجحي نفسه يقول (وأما آحاده وأفراده فقد فصلوا القول فيها فمنها ما هو شرط في صحة الإيمان ومنها ما هو شرط في كماله والفيصل في هذا نصوص الكتاب والسنة وفهم السلف) فهل نقول بعد ذلك عنه إنه يقول إنه يخرج بعض العمل من الإيمان؟ أو ينسب لأهل السنة أن بعض العمل ليس من الإيمان لأنه يقول عنه شرط كمال؟ بالقطع لا، فإن ما هو شرط كمال عنده هو جزء من الإيمان وليس خارجاً عنه.

لذا نقول إن اتهام العلماء الذين يقولون بأن العمل شرط كمال بأنهم مرجئة أو موافقون للمرجئة معاملة لهم بالاصطلاح مع تصريحهم بأن العمل من الإيمان، خطأ مخالف للإنصاف.

 (3) - وهو يرد كذلك على من يلتزم بقول (لا كفر إلا باعتقاد) وهذا ليس بلازم لقول كل من يقول بأن العمل شرط كمال، فمن يقول ذلك من أهل العلم لا يلتزم أنه لا توجد أفعال كفرية بالجوارح كالسجود لصنم اختياراً والاستهزاء بالمصحف فإن كلهم يقول أن هذه الأفعال مكفرة فمن يشترط في ذلك الاستحلال فهو موافق للمرجئة فعلاً، ولكن تبقى مسألة، أنه هل يتصور وجود كفر ظاهر- قولاً أو فعلاً- مع بقاء أصل الإيمان في القلب؟ أم لابد من زوال شيء من أركان الإيمان الواجبة من القلب، أو وجود كفر باطن في القلب؟ فالصحيح أن وجود الكفر الظاهر مستلزم إما لوجود كفر باطن كإباء واستكبار، وإما لزوال ركن واجب من أركان الإيمان والصحيح أن الأمرين متلازمان فالإباء مستلزم لزوال أصل الانقياد، والاستكبار مستلزم لانتفاء أصل القبول، والاستهزاء مستلزم لزوال أصل التعظيم لله سبحانه الذي هو جزء من ماهية عبادته واعتقاد ألوهيته ووحدانيته.

 ونحن إنما نقول  في الأعمال المكفرة الظاهرة -وكذا الأقوال- باستيفاء الشروط وانتفاء الموانع، كالإكراه والخطأ والنسيان وعدم بلوغ الحجة ونحو ذلك، ولا نقول أن من الشروط الاستحلال للمكفرات، أو أن من موانع التكفير عدم الاستحلال، وإنما الاستحلال شرط للتكفير في المعاصي. ثم الخلاف في هذه المسألة بعد هذا التقرير الذي قررته يكاد يكون لفظياً، أما بدون هذا التقرير فهو خلاف كبير جداً بيننا وبين المرجئة الذين يسوون بين الشرك وما دونه فيشترطون الاستحلال فيهما للتكفير، ونحن نقول لا يشترط الاستحلال في التكفير بارتكاب الشرك، وإنما يشترط في ارتكاب الذنوب ما دون الشرك، والشرك ونواقض الإسلام يشترط في التكفير بها عدم الإكراه وعدم الخطأ وباقي شروط التكفير كإقامة الحجة وزوال شبهة التأويل ونحو ذلك، فلا نزاع أن كلمة (اللهم أنت عبدي) كفر أكبر وكذا (وأنا ربك) لكن لو قالها القائل مخطئاً لم يكفر فالقصد شرط والخطأ مانع.

أما أن نشترط أن يكون مستحلاً ولو كان يقول عن نفسه أنه عاص ومقصر لكنه هازل مثلاً؛ فعدم تكفير هذا قول المرجئة كمن يقول عمن يسب الله تعالى والنبي -صلى الله عليه وسلم- والشرع أنه غير مستحل فلا يكفر، فهذا قول باطل بلا شك بل هو كافر إلا أن يكون مجنوناً أو صبياً أو مكرهاً أو نحو ذلك.

4 – التلميح بأن الشيخ الألباني وافق قول المرجئة في قوله أن الأعمال شرط كمال لا نوافق عليه ولابد أن ينظر إلى استعمال كلمة (شرط) في السياق خصوصا أن الشيخ -رحمه الله- يصرح أن العمل من الإيمان بخلاف الأشاعرة.

5 – إذا كان السلف لم يصرحوا بأنه شرط كمال لكنهم يصرحون بأن ترك الأعمال الواجبة من غير جحود لا يكفر ولا يخلد في النار والكلام بتفاصيله تجده في كتاب "الرد على ظاهرة الإرجاء"، فيبقى الخلاف في النقل عنهم لفظيا، ثم أين في كلام السلف أن العمل ركن في الإيمان يزول الإيمان بزواله جنساً أو آحادا، لا يستطيع المخالف أن ينقل حرفاً عن الأئمة فيما يقول، وما يذكرونه عن الشافعي والآجري وأبى ثور فإنما هو في الرد على المرجئة الذين يثبتون الإيمان مطلقا بلا عمل ويقولون ينفع بلا عمل، فهل قلنا يكفي الاعتقاد والنطق عن العمل؟، فتأمل قول الآجري "فمن لم يصدق الإيمان بعمل جوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه ذلك ورضى من نفسه المعرفة لا يكون مؤمنا"، فهل تقولون أن الآجري يكفر تارك الجهاد وأشباه ذلك؟ وأين في كلامه (جنس العمل أو آحاده)؟، لكنه يرد على المرجئة في قولهم أن الإيمان يحصل مطلقا أي كاملا لأنه ليس عندهم ناقص ولا كامل، بل كله كامل -مع ترك العمل-، وأما النقل عن سفيان بن عيينة فسنده ضعيف لضعف سويد بن سعيد، ثم لو صح فمحمول على الإباء والاستكبار فإنه يستدل عليه بحال إبليس وعلماء اليهود وهذا ظاهر جداً وليس في التارك تكاسلاً ويمكن أن تراجع هذا بالتفصيل في كتاب "الرد على ظاهرة الإرجاء"

6 -  أين في أدلة الكتاب والسنة وأقوال السلف أن جزء الماهية يكون ركناً في الشيء يزول بزواله، فالشجرة لها فروع هي منها بلا شك ولا يلزم من قطعها زوال أصل الشجرة، والكلام عن الركن والشرط محاكمة للشيخ الألباني على اصطلاح لم يلتزمه هو ولا من قبله من العلماء ولا حتى الشيخ الراجي نفسه.

وأظن أن من يعترض على الشيخ قد أُتي هو من مثل هذه المحاكمة إلى اصطلاحات المتكلمين مع إغفال معنى الركن والشرط شرعاً ولغة، فركن الشيء لغة جانبه كالركن اليماني للبيت وقد قال النبي -صلى الله عليه و سلم- (إن أحق ما أوفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شرطين في بيع، وهذا يشمل عند عامة أهل العلم الأركان الاصطلاحية والشروط الاصطلاحية معاً.

فمن قال إنه يقصد بالركنية الجزئية ولا يلتزم بزوال الإيمان بالكلية لمن ترك الأعمال الظاهرة فلا نختلف معه وإن كنا نطلب منه توضيح قصده لئلا يتلبس الأمر على غيره، وأما من يقصد بالركنية زوال الإيمان بالكلية بزوالها، فمناقشتنا معه تجدها في كتاب (الرد) وافية إن شاء الله. وأرجو أن يكون هذا الرد كافياً لكم إن كنتم من طلاب العلم الباحثين عن الحق بالأدلة. وإن كنتم إنما تتبعون من تثقون به من العلماء أفلا يكفيكم كلام أهل السنة بإطلاق أن الإيمان قول وعمل؟ وألا يكفيكم نقل الخلاف في تكفير تارك المباني الأربعة دون غيرها؟ وألا يكفيكم القول بأنه يلزم ترك الشرك ونواقض الإسلام في إغلاق هذا الملف حتى يمن الله عليكم بالقدرة على الترجيح بالأدلة دون مجرد أسماء المشايخ.

ونسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى.