كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن عروة بن الزبير عن أبي هريرة -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ)، وفي الرواية الأخرى: (اسْتَعِينُوا عَلَى إِنْجَاحِ الْحَوَائِجِ بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ) (رواه الطبراني في الكبير والأوسط والصغير، وصححه الألباني).
مجمل الوصية:
(اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بِالْكِتْمَانِ) أي: كونوا لها كَاتِمِينَ عن الناس، واسْتَعِينُوا بالله على الظَّفَرِ بها، ثم عَلَّلَ طلب الكتمان لها بقوله: (فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ) يعني: إِنْ أَظْهَرْتُمْ حَوَائِجَكُمْ لِلنَّاسِ حَسَدُوكُمْ فَعَارَضُوكُمْ فِي مَرَامِيكُمْ. (الإشارة إلى ظاهرة نشر تفاصيل وأسرار البيوت وما فيها من النعم على وسائل التواصل؛ مما أَدَّى إلى إصابة كثير من أصحابها بالمصائب نتيجة حسد المشاهدين لها)(1).
في كتمان النعم نجاة من الحسد:
- في كتمان النعم نجاة من كَيْدِ الأشرار وَحَسَدِهِمْ: قال الله -تعالى- فِي نصيحة يعقوب لولده يوسف -عليهما السلام- بكتمان نعمة الرؤيا التي رآها عن إخوته خشية الحسد: (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يوسف: 5).
- حسد الغير على النعم كان أول ذنب وقع فِي السماء وفي الأرض: قال -تعالى- عن حسد إبليس لآدم: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) (الإسراء: 61-62).
- وقال -تعالى- عن حسد أحد ابني آدم لأخيه على نعمة الهدايا والقبول: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27).
- في كتمان النعم نجاة من الوقوع فِي إيذاء نُفُوسِ المَحْرُومِينَ منها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ) (رواه الطبراني والحاكم، وصححه الألباني).
- فَعَلَى المسلم أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ بِالْكِتْمَانِ، وَلاَ يُفْشِي نِعْمَتَهُ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ لأنه ربما يكون ذلك سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ حَسَدِهِ وَفَشَلِهِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ؛ قالوا: "أَحْزَمُ الناس مَنْ لاَ يُفْشِي سِرَّهُ إِلَى صَدِيقِهِ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمَا شَرٌّ فَيُفْشِيَهُ عَلَيْهِ".
ما المقصود بالتحديث بالنعمة؟
لاَ تَعَارُضَ بين قوله -تعالى-: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى: 11) ووصية النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اسْتَعِينُوا عَلَى إِنْجَاحِ الْحَوَائِجِ بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ).
وقد وَفَّقَ العلماء بينهما من وجوه كثيرة:
- الكتمان يكون قبل حُصُولِ الحاجة، فإذا حَصَلَتْ، وَأَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِبُلُوغِ مَا يُرِيدُ، فإنه يَتَحَدَّثُ بِالنِّعْمَةِ وَيَشْكُرُ اللهَ عَلَيْهَا، مَا لَمْ يَخْشَ مِنْ حَاسِدٍ(2).
- التحديث بالنعمة هو القيام بِشُكْرِهَا، وإظهار آثارها، فإذا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ شَكَرَ اللهَ -تعالى- على هذه النعمة، وَأَكْثَرَ مِنَ التَّصَدُّقِ وَالْكَرَمِ وَالْجُودِ، حتى يَقْصِدَهُ الفقراء والمحتاجون(3).
- التحديث بالنعم لاَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ التفصيل، بل قد يكون إجمالاً، بأن يقول: إنَّ اللهَ أَنْعَمَ عَلَيَّ بِالصِّحَّةِ وَالْغِنَى وَالهِدَايَةِ، ولا يُفَصِّلُ في ذكر هذه النعم؛ قال السعدي -رحمه الله-: "(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ): وَهَذَا يَشْمَلُ النِّعَمَ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ؛ أَيْ: أَثْنِ عَلَى اللهِ بِهَا، وَخُصَّهَا بِالذِّكْرِ، إِنْ كَانَ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ، وَإِلَّا فَحَدِّثْ بِنِعَمِ اللهِ عَلَى الإطلاق، فإنَّ التحدث بنعمة الله دَاعٍ لِشُكْرِهَا، وَمُوجِبٌ لِتَحْبِيبِ القلوب إلى مَنْ أُنْعِمَ بِهَا؛ فإنَّ القلوب مَجْبُولَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ المُحْسِنِ".
- التحديث لا يكون إلا للمُحِبِّ الصَّادِقِ فِي حُبِّهِ، فعن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: كنت أرى الرؤيا تُمْرِضُنِي، حتى سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلَا يُحَدِّثُ بِهَا إِلَّا مَنْ يُحِبُّ...) (متفق عليه).
من أسباب الوقاية من حسد الحاسدين لنعمتك:
1- كتمان النعم وإخفاؤها عَمَّنْ يُعْرَفُونَ بِالْحَسَدِ أو العين: (وصية الباب). وقال -تعالى-: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (يوسف: 67).
2- التَّعَوُّذُ بِاللهِ وَاللُّجُوءُ إِلَيْهِ، وَالتَّحَصُّنُ بِهِ، وَمَا تَعَوَّذَ المسلم بأفضل من المعوذتين: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (الفلق: 1)، (وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (الناس: 1).
3- تَقْوَى اللهِ وَحِفْظُهُ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ تَوَلَّى اللهُ حِفْظَهُ، وَلَمْ يَكِلْهُ إِلَى غَيْرِهِ: قال -تعالى-: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران: 120)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
4- إطفاء شَرِّ الحاسد بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِ: قال -تعالى-: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت: 34).
5- وَهُوَ الْجَامِعُ لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ هَذِهِ الأَسْبَابِ هُوَ: تَجْرِيدُ التوحيد، وَالتَّرَحُّلُ بِالْفِكْرِ فِي الأَسْبَابِ إِلَى المُسَبِّبِ اللهِ العزيز الحكيم، وَالْعِلْمُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِيَدِ اللهِ يُحَرِّكُهُ كَيْفَ شَاءَ، وَلاَ يَنْفَعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، قال -تعالى-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) (الأنعام: 17). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإشارة إلى أنَّ النعم تَنْقَسِمُ إِلَى نَوْعَيْنِ: مَعْنَوِيَّةٍ وَحِسِّيَّةٍ؛ فالمعنوية: كَفَضْلِ القرآن أو نَيْلِ مَكَانَةٍ مَرْمُوقَةٍ، وَالْحِسِّيَّةُ: كَالْمَالِ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ وَنَحْوِهِ.
(2) قال المناوي -رحمه الله-: "موضع الخبر الوارد في التحدث بالنعمة: ما بعد وقوعها، وأَمْنِ الحسد" (فيض القدير). وقال ابن كثير -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: (قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ...)، يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا، الأَمْرُ بِكَتْمَانِ النِّعْمَةِ حَتَّى تُوجَدَ وَتَظْهَرَ، كَمَا وَرَدَ فِي حديث: (اسْتَعِينُوا...)" (تفسير ابن كثير). مثال: عندك خطة للسفر أو دراسة أو للتجارة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- علَّمنا ألا ننشر الأمر قبل أن يكون؛ فإنَّ هذا يؤدي إلى العديد من السلبيات:
- الحسد: وهذا هو المقصد الأصلي من الحديث، فبعض الناس وخاصة الأقران المتماثلين في مهنة أو في سنٍّ واحد دائمًا ما يكون بينهم الحسد، فيقول: هذا فلان عقله كذا وكذا، هذا فلان في نفس سني ويملك كذا وعنده كذا، وحاصل على شهادات كذا، وأنا كما أنا لم أتحرك! ثم يسخط على الله وعلى قَدَر الله، وينقم عليك بالحسد ولا حول ولا قوة إلا بالله.
- التثبيط: بعض الناس عندهم النظرة السوداوية للأمور فما إن تعرض عليه شيئًا إلا ويفشله لك قبل أن يكون، فيذكر لك ألف مصيبة في هذا الأمر الذي تريده، سيحدث كذا وسيحدث كذا والسوق فيه كساد وفيه خسارة ولا تلقي بأموالك، وهذه النصائح إذا خرجت من خبير بالسوق وناصح أمين فهي مقبولة فالمستشار مؤتمن، وأنا إذا أردت أن أستشير أستشير أهل الثقة، أهل الخبرة وهناك شركات ومكاتب متخصصة الآن في عمل دراسة جدوى للمشاريع.
- الكيد والمكر: بعض الناس تَلْمَعُ لَهُ الفكرة التي سمعها منك فَتَرُوقُ لَهُ فَيَسْرِقُهَا مِنْكَ، ثم يَسْبِقُكَ بِهَا.
(3) قال القاسمي -رحمه الله-: "قال الإمام -يعني: الشيخ محمد عبده رحمه الله-: من عادة البخلاء أن يكتموا مالهم، لتقوم لهم الحجة في قبض أيديهم عن البذل، فلا تجدهم إلا شاكين من القل، أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله، ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه؛ فلهذا صح أن يجعل التحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفقراء وإعانة المحتاجين، فهذا هو قوله: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي: إنك لما عرفت بنفسك ما يكون فيه الفقير، فأوسع في البذل على الفقراء، وليس القصد هو مجرد ذكر الثروة، فإن هذا من الفخفخة التي يتنزه عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولم يعرف عنه في امتثال هذا الأمر أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض، ولكن الذي عرف عنه أنه كان ينفق ما عنده ويبيت طاويًا" (محاسن التأويل).