الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 19 مايو 2025 - 21 ذو القعدة 1446هـ

هلموا إلى منهج السلف (1)

كتبه/ إسلام صبري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فيَتردَّد سؤال على أسماعنا بين الحين والحين: هل كل من خالفكم فهو قطبيٌّ سروريٌّ؟ 

ونحن إذا أردنا الجواب عن هذا السؤال، فلابدَّ من تحرير بعض المصطلحات المهمة أولًا؛ حتى لا يلتبس حقٌّ بباطل، ولئلا تضيع الأحكام الشرعية المهمة، والمعاني الإيمانيَّة الواجبة في خِضَم مناقشات عقيمة ومجادلات سطحية تفتقر إلى الدليل الشرعي، بل حتى إلى أبجديات الكلام المنطقي المقبول. 

فنقول: 

(1) أما مسائل الخلاف السائغ -وهي المسائل التي لا تخالف نصًّا صريحًا من كتاب أو سنة، ولا إجماعًا قديمًا، ولا قياسًا جليًّا-؛ فهذه مسائل يسعُ المسلمين فيها الاختلاف بإجماع العلماء، لم يخالف في ذلك عالمٌ واحد من علماء المسلمين عبر القرون.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك" (مجموع الفتاوى)

فانظر رحمك الله إلى نقله اتفاق الصحابة الكرام رضي الله عنهم على عذر بعضهم بعضًا في مسائل الاجتهاد (الخلاف السائغ)، وأن ذلك لا يقتضي ذمًّا ولا قطيعةً، ولا اتهامًا لدين بعضهم بعضًا لأجل أنهم اختلفوا في مسائل يسع فيها الخلاف.

وإن من مسائل الخلاف: مسائل السياسة الشرعية، بل حتى اختلف الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- بعد مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وأرضاه، وأدَّى اختلافهم السائغ إلى اقتتال بينهم، كلٌّ منهم يرجو برأيه الذي اختاره ديانةً لله -تعالى- بعد نظر واجتهاد؛ يريد به نصرةَ دين الله -عزَّ وجلَّ- ورفع راية الإسلام عاليةً خفاقة دون أن يخوِّن بعضهم بعضًا ولا أن يتهم بعضهم بعضًا في ديانتهم أو مروءتهم، حتى رُوي أنهم كانوا يتقاتلون بالنهار ويتزاورون بالليل، يتقاتلون ويتآخون؛ وذلك لأن اختلافهم اختلاف سائغ، وكلٌّ اجتهد واختار رأيًا ديانةً لله لا يسعه الخروج عنه وإلا كان تاركًا ما يجب عليه شرعًا. 

هذه النظرة العلمية المتأنِّية هي التي تفتح آفاق الحوار بين المسلمين مع اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم الفكرية، وتجعل المعيار في تقييم الاختلاف هو الدليل الشرعي والمناظرة أو المدارسة العلمية المبنيتان عليه -أي: الدليل الشرعي-، لا مجرد الانتماء لتلك الجماعة أو عدم الانتماء إليها كما هو فعل أهل العصبية الجاهلية -والعياذ بالله-. 

وأما وصلات الشتائم، وموائد الغيبة والنميمة، وأساليب الهمز واللمز، واستمراء إلقاء التهم المنحوتة، والتجرؤ على الطعن في دين ومروءة رجال قلَّ الزمان أن يجود بمثلهم؛ هذه أفعال المفلسين ولا تنتمي إلى منهج السلفيين -منهج الأنبياء والمرسلين- لا من قريب ولا من بعيد، وهي أقرب إلى البدعة منها إلى السنة، ولا تُوصف إلا بأنها من البغي والظلم والعدوان. 

فمن يختلف مع غيره في وجوب مسح بعض الرأس أو كلِّه، أو وجوب ترتيب أعضاء الوضوء من عدمه، أو في وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع أو إرسالهما، أو النزول على الركبتين إلى السجود أم اليدين، أو في وجوب النقاب أم استحبابه، أو في جواز نقل الزكاة إلى بلد غير بلد المزكِّي من عدم جواز ذلك، أو تنزيل الأحكام الشرعية ممن هو أهل لذلك على الوقائع والأحداث، لا سيما الكبرى منها والتي تتعلق بعامة المسلمين في ناحية أو قطر، والذي اصطلح عليه أهل زماننا بـ(أمور السياسة)، أو صحة انتساب بعض أهل البدع -كالخوارج والشيعة الاثني عشرية- إلى الإسلام مع تغليظ بدعتهم من عدم صحة انتسابهم إلى الإسلام وخروجهم منه، ونحو ذلك من مسائل العلم الشرعي المبثوثة في كتب العلماء من أمور القتال في سبيل الله، والخلافة والإمامة، والسياسة الشرعية.

وغير ذلك مما اختلف فيها العلماء اختلافًا سائغًا؛ من اختلف في كل هذا ونحوه مع غيره من المسلمين، فهذا اختلاف سائغ مقبول، يجب على كلٍّ من المختلفَين عذر صاحبه في ذلك ما دام وصل إلى اجتهاده هذا بطريق شرعي، إما باجتهاده إن كان عالمًا مجتهدًا، أو بترجيحه بين الآراء ما دام محصِّلًا لأدوات ذلك، أو بتقليده من يثق في دينه وعلمه وأمانته، ولا يجوز إنكار كلٍّ منهما على الآخر، فضلًا عن تخوينه أو اتهامه في دينه أو تكفيره؛ فهذا من الظلم المبين، والعدوان الكبير على المسلمين وعلى دين ربِّ العالمين. 

وفي المقال التالي نتناول بالكلام مسائل الخلاف غير السائع -بإذن الله-.