كتبه/ محمود أمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد تابع المجتمع المصري كله قضية الطفل ياسين، وقد شعر الجميع بمرارة الظلم الذي تعرض له طفل في مثل عمره، والظلم الذي وقع على أبيه وأمه.
وهنا نحتاج أن نقف وقفة مع هذا المعنى: أن الفاحشة ظلم للآخرين، وهذا المعنى لو فكر فيه كل إنسان يهم بالفاحشة أو عرضت عليه الفاحشة لكان زاجرًا كافيًا له.
يوسف -عليه السلام- حين عُرضت عليه الفاحشة هرب منها، ولما قالت له امرأة العزيز: (هَيْتَ لَكَ)، قال: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف: 23)، فكان من أكبر الأسباب التي نجَّته من الفاحشة بعد الاستعاذة بالله أنه تذكر ظلم المخلوقين، وأنه بذلك سيكون ظالمًا.
فالمقصود بقوله: (إِنَّهُ رَبِّي) أي: سيدي، وكانوا يطلقون الرب على السيد والكبير، فقال لها: إن زوجك سيدي، (أَحْسَنَ مَثْوَايَ) أي: أحسن منزلتي، وأكرمني وائتمنني، وأحسن إليَّ، فلا أخونه، فلا أقابله بالفاحشة في أهله؛ لأن هذا ظلم، والظالمون لا يفلحون.
فانظر إلى هذا المعنى وفكر فيه كثيرًا... مع أن يوسف -عليه السلام- بيع عبدًا رقيقًا، وهو الحر الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم من الأسرة المباركة، ومن نسل الأنبياء، ولكن لما اشتراه العزيز أحسن إليه وقال لامرأته: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) (يوسف: 21)؛ فراعى يوسف -عليه السلام- هذا المعروف، وتذكر إحسان هذا الرجل إليه حين أكرمه في بيته، فلا ينبغي أن يقابله بالإساءة إليه في أهله وإلا كان ظالمًا.
ما أجمل أن نتذكر حقوق الناس، وأن نبتعد عن ظلمهم، وألا نقدِّم حظوظ أنفسنا عليهم، وألا نطلب شهوات النفوس وملذاتها بظلم الآخرين وإيذائهم؛ إن هذا والله لهو الأنانية وحب النفس، وليس حبًّا للآخرين ولو كذبت النفس، وقالت: أحب فلانًا! فإن مَن أحب أحدًا لم يظلمه.
وكيف تطيب نفسه أن يتلذذ بالعدوان على حق غيره؟ وكيف تطيب نفسه أن يخون مَن ائتمنه؟ وكيف تطيب نفسه أن يطلب السعادة في ألم غيره؟
يجري خلف شهوة يحصلها ولا يفكر في آلام أب وأم، وأخ وأخت، وزوج وزوجة، وابن وأهل وأقارب لذلك الشخص!
إنها الشهوة تعمي وتصم صاحبها وتجعله في سكرة؛ فلا يفكر في العواقب ولا المآلات، ولا يتذكر حقوق الناس، ولا يفكر فيما يعقب هذه الشهوة.
والشهوة إذا غلبت أصابت صاحبها بالمرض، فأصبح قلبه قاسيًا ليس له هم إلا نفسه، ولربما دفعت صاحبها لارتكاب الجريمة بالاغتصاب والإكراه على الفاحشة، وربما أدَّته إلى القتل وسفك الدماء البريئة؛ ولذلك كان الزنا قرين القتل، ولهذا ذكر في القرآن التحذير من الزنا مقترنًا به التحذير من القتل؛ كما قال -تعالى-: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا . وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء: 32، 33).
وربما اشتد المرض وانتكست الفطرة؛ فأصبح يطلب الشهوة في غير نكاح النساء، وهذا هو أشد الفاحشة؛ لأنه انتكاس للفطرة وعمى عن المقصود من الشهوة ووضع لها في غير موضعها، بل وصل الأمر بقوم لوط إلى أنهم كانوا يعتدون على أي رجل غريب دخل القرية، فيفعلون معه فاحشة اللواط بالإكراه، حتى إنهم أرادوا الاعتداء على أضياف لوط -عليه السلام-، قال الله -تعالى-: (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ . قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ . وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ . قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ . قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر: 67-72).
ولذلك كانت الفاحشة ظلمًا للنفس أولًا، فيصبح أسيرًا لشهوته، يذل نفسه، ويغيِّر فطرتها، ويعمى عن النظر إلى العواقب والمآلات.
كما أن الفاحشة ظلم للآخرين: إما ظلم للشخص المعتدى عليه ولغيره في حال الاغتصاب والإكراه، أو ظلم لأقاربه وأهله وأسرته إن كان راضيًا.
وظلم للمجتمع ككل: لأن انتشار هذه الفواحش سبب لتحلل المجتمع وتفكك نظام الأسرة، وانتشار الجرائم، وانهيار الأخلاق، وانتشار المظالم، وإيقاع العداوة والخصومة، وطلب الثارات، كما أنها سبب لغضب الله -عز وجل- ونزول العقاب العام.
وقد هذَّب الإسلام تلك الشهوة، وجعلها تُدرَك من خلال عقد غليظ؛ وهو: عقد الزواج، ومن خلال الفطرة السوية بنكاح الرجال للنساء؛ فلا ينكح الذكور الذكور، ولا الإناث الإناث، خلافًا لمن انتكست فطرتهم من أهل أوروبا والأمم المتحدة؛ الذين جعلوا للأسرة صورًا متعددة كذبًا وزورًا باسم النوع المجتمعي، واستحلوا ما حرمه الله، ونبذوا الدين خلف ظهورهم.
كما جعل الإسلام للزواج حقوقًا وواجبات: فكانت الشهوة طريقًا لعلاقة تُبنى على المودة والرحمة، وكان ما ينشأ عنه من وجود الأولاد سببًا لرابطة اجتماعية قوية، وكان سببًا للالتزام بحق النفقة عليهم وحسن تربيتهم إلى غير ذلك من منافع كثيرة، فسبحان رب العالمين الذي أحكم كل شيء، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!
ولذلك وجود هذه الأمراض والفواحش في المجتمع نذير خطر يتطلب التصدي من الجميع لها حتى لا تكون سببًا لانتشار المظالم، والظلم لا يفلح صاحبه؛ فلو رضي المجتمع كله بذلك لكان مجتمعًا ظالمًا، وكان الفلاح عنه بعيدًا.