كتبه/ وائل عبد القادر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا، قَالَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، فَقَالَ لِلْأَرْضِ: أَدِّي مَا أَخَذْتِ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ -أَوْ قَالَ مَخَافَتُكَ- فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا) (رواه مسلم). قَالَ الزُّهْرِيُّ: "ذَلِكَ، لِئَلَّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ، وَلَا يَيْأَسَ رَجُلٌ".
وبمجموع روايات الحديث تبيَّن أن هذا الرجل ممَّن كان قبلنا وأنه لم يعمل خيرا قط.
قال الإمام النووي -رحمه الله- في شرح هذا الحديث: "قال بن شِهَابٍ -أي: الزهري-: لِئَلَّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ وَلَا يَيْأَسْ رَجُلٌ: معناه: أن ابن شِهَابٍ لَمَّا ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ خَافَ أَنَّ سَامِعَهُ يَتَّكِلُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَعِظَمِ الرَّجَاءِ؛ فَضَمَّ إِلَيْهِ حَدِيثَ الْهِرَّةِ الَّذِي فِيهِ مِنَ التَّخْوِيفِ ضِدَّ ذَلِكَ لِيَجْتَمِعَ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لِئَلَّا يَتَّكِلَ ولا ييأس، وَهَكَذَا مُعْظَمُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ".
وحقًّا قال -رحمه الله-؛ فإن أغلب آيات القران بل وسنة النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على الجمع بين الأمرين (الخوف والرجاء)؛ وذلك "لِئَلَّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ، وَلَا يَيْأَسَ رَجُل".
فالعبد في طريق سيره إلى الله -تعالى- يجمع بين الحالين؛ لئلا يتكل الراجي على سعة رحمة الله فيترك العمل، ولئلا يقنط الخائف من سعة رحمة الله تعالى فييأس ويترك التوبة، وكلا الحالين مذموم؛ قال -تعالى-: (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، وقال -عز وجل-: (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف: 99).
فمن أمثلة الجمع بينهما في القرآن: قوله -عز وجل-: (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأعراف: 167)، وقوله -تعالى-: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (غافر: 3)، وقوله أيضًا: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) (الحجر: 49، 50)، وقوله -تعالى-: (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام: 147)، وقوله -تعالى-: (اعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة: 98).
وهذه طريقة الرسل وزبدة دعوتهم في كل أمة حيث قال -تعالى-: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) (فصلت: 43).
وآيات القرآن في الجمع بين الوعد والوعيد، والخوف والرجاء كثيرة جدًّا، جمعت بينهما ليعظم رجاء الناس في فضله -تعالى-، ويشتد خوفهم من عقابه وعذابه الشديد؛ لأن مطامع العقلاء محصورة في جلب النفع ودفع الضر، فاجتماع الخوف والطمع أدعى للطاعة.
ومن أمثلة ذلك في السنة المطهرة: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ) (رواه مسلم).
والمعنى: لو اطلع المؤمن على عظم ما عند الله من العقوبة؛ لغطى ذلك على ما يعلمه من سعة الرحمة فيكون ذلك سببًا في حصول الخوف والقنوط، ولو اطلع الكافر على ما عند الله من سعة الرحمة لغطى ذلك على ما يعلمه من عظيم العذاب فيحصل له الرجاء.
قال المباركفوري -رحمه الله-: "وورد الحديث في بيان كثرة رحمته وعقوبته؛ كيلا يغتر مؤمن برحمته فيأمن من عذابه، ولا ييأس كافر من رحمته ويترك بابه".
وللحديث بقية -إن شاء الله-.