كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كان الأستاذُ محمود شاكر مِن الأوفياءِ، الذين يَعتَدُّونَ بالذِّكرى الحَسَنةِ، ويُقدِّرُونَ المَودَّةَ والصَّداقةَ؛ فمِن مَظاهرِ هذا الوفاءِ: وفاؤُه لِأساتذتِه في حياتِهم، وبعد مماتِهم، ومِن أهمِّ هؤلاءِ الأستاذُ: أحمد تيمور باشا، الذي قال عنه -كما ذكرنا في مقالٍ سابقٍ-: "مع فَضْلِ رَجُلٍ عظيمٍ عليَّ وهو مُحِبُّ الدِّين الخطيب، ورَجُلٍ آخَرَ وهو أحمد تيمور باشا، الذي سدَّد خُطاي في كُلِّ ما كنتُ قَلِقًا إليه في ذلك الوقت".
فكان يَحتفِي بأحمدَ تيمور كثيرًا، ولِمَ لا يَحتفِي به ويُخَلِّدُ ذِكْراه وله عليه يَدٌ لا تُنسَى؟! حينما أَمَدَّه بمقالةِ مرجليوث قبل التحاقِه بالجامعةِ، فأصبحت الشَّرارةَ التي أوقَدتْ نارَ الصِّراعِ في الجامعةِ، التي لَم تَنطفِئ في حياتِه، ولا بعد وفاتِه.
وقد سَطَرَ الأستاذُ محمود حكايتَه مع أستاذِه أحمد تيمور في مُقدِّمتِه الجديدةِ على كتابِه "المُتنبِّي"، وضمَّنَها هُجُومَه المُدَمِّرَ على الاستشراقِ والمُستشرقينَ، بكلماتٍ لا تَصْدُرُ إلا عن كاتبٍ فَذٍّ، لا يَعْرِفُ اللَّغْوَ، والذي تَصْدُرُ عنه الكتابةُ عادةً مُستحكِمةً وطبيعةً مُلازِمةً، فالفكرُ عميقٌ، والأسلوبُ رائقٌ شائقٌ دقيقٌ، والألفاظُ مُنتقاةٌ مُتخيَّرةٌ، تَقَعُ مِن النُّفُوسِ مَوقِعَ الماءِ الباردِ مِن ذي الغُلَّةِ الصَّادي، وتَصِلُ إلى القُلُوبِ دون أن يَحْجُبَها حِجابٌ، أو تُغْلَقَ دونها أبوابٌ.
فقال: "وبهذا التَّذَوُّقِ المُتَتابعِ الذي أَلِفْتُه، صار لِكُلِّ شِعْرٍ عندي مَذاقٌ وطَعْمٌ وشَذًا ورائحةٌ، وصار مَذاقُ الشِّعْرِ الجاهليِّ وطعمُه وشذاهُ ورائحتُه بيِّنًا عندي، بل صار تَمَيُّزُ بعضٍ مِن بعضٍ دالًّا يَدُلُّنِي على أصحابِه.
بمثل هذا الحديثِ كنتُ أفاوضُ الشُّيوخَ الكبارَ ممّن عَرَفْتُهم ولَقِيتُهم، وكان هذا الحديثُ هِجِّيرَاي -أي دأبي وعادتي مِن فَرْطِ النَّشْوة-، فكان يُعرِضُ عنِّي مَن أعرض، ويُرَبِّتُ على خُيلاءِ شبابي مَن رَبَّتَ بيدٍ لطيفةٍ حانيةٍ.
كان مِن هؤلاءِ شيخٌ ساكنُ الهَيْبةِ، رقيقُ الحاشيةِ، ساحرُ الابتسامةِ، رفيقُ اليدِ واللِّسانِ، حُلْوُ المَنْطِقِ، خفيضُ الصَّوتِ، ذَكِيُّ العَيْنَيْنِ، هو أستاذُنا أحمد تيمور باشا -رحمه الله-، فاستمع إلى نَشْوتِي بالشِّعْرِ الجاهليِّ استماعَ مَن طَبَّ لِمَن حَبَّ، كما يُقَالُ في المَثَل.
حدَّثتُه مِرارًا، ثمّ جاء يومٌ فالتقَينا، على عادتِنا يومئذٍ (سنة 1925م)، في المكتبةِ السَّلفيَّةِ عند أستاذِنا مُحِبِّ الدِّينِ الخَطِيبِ، فلَم يَكَدْ يجلسُ حتى مَدَّ يدَه إليَّ بعددٍ مِن مَجَلَّةٍ إنجليزيَّة، (عدد يوليه 1925م مِن مَجَلَّةِ الجمعيَّةِ المَلَكِيَّةِ الآسيويَّة)، وقال لي وهو يَبتسِمُ: اقرأْ هذه! فإذا فيها مقالةٌ لِلْأعجميِّ المُستشرقِ مرجليوث، تَسْتَغْرِقُ نَحْوَ اثنتَينِ وثلاثينَ صفحةً مِن هذه المَجَلَّةِ، بعنوانِ: "نشأةِ الشِّعْرِ العربيّ"؛ كنتُ خبيرًا بهذا الأعْجَمِيِّ التَّكوينِ، التَّكوينِ البدنيِّ والعقليِّ، منذ قرأتُ كتابَه عن محمَّدٍ رسولِ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-.
أخذتُ المَجَلَّةَ وانصرفتُ، وقرأتُ المقالةَ، وزاد الأعجميُّ سُقُوطًا على سُقُوطِه؛ كان كُلُّ ما أراد أن يَقُولَه: إنّه يَشُكُّ في صِحَّةِ الشِّعْرِ الجاهليِّ، لا، بل إنّ هذا الشِّعْرَ الجاهليَّ الذي نَعْرِفُه، إنّما هو في الحقيقةِ شِعْرٌ إسلاميٌّ وضعه الرُّوَاةُ المُسْلِمُونَ في الإسلامِ، ونَسَبُوهُ إلى أهلِ الجاهليَّةِ، وسُخْفًا في خلالِ ذلك كثيرًا؛ ولأنِّي عرفتُ حقيقةَ الاستشراقِ، لَم أُلْقِ بالًا إلى هذا الذي قرأتُ، وعندي الذي عندي مِن هذا الفَرْقِ الواضحِ بين الشِّعْرِ الجاهليِّ والشِّعْرِ الإسلاميّ" (انتهى من مقدمة المتنبي).
ونُكمِلُ الحكايةَ في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
فاللهمّ يَسِّرْ وأَعِنْ.