من تراث الدعوة حول القضية الفلسطينية
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فأمر مهم ينبغي أن نتفكر فيه، هل الذي جعله الله -سبحانه وتعالى- ينصر الدين في وسط إشراقه وانتصاره أفضل، أمَّن جعله الله -سبحانه وتعالى- ينصر الدين في وسط إظلام الدنيا وإدبارها وابتعاد الناس عن الدين؟!
لماذا سبق السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؟
لأنهم التزموا حينما كانت الدنيا ظلامًا.
لأنهم التزموا حينما كان أكثر أهل الأرض ليسوا على الإيمان، ولا يعمل أحد لأجل إعلاء كلمة الله في الأرض، وإنما بقي على دين الأنبياء قِلَّة، لكنها اكتفت أن تعبد الله في الصوامع والبيع.
انظر... شرف عظيم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ لأنهم سبقوا إلى الله في الدلجة، عندما كانت الدنيا مظلمة، فسبقهم لا يصل إليه أحدٌ؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- جعلهم هم على الإسلام في وقت كانت الأرض فيه كلها ظلام، وكل من شابههم في جزء من صفاتهم كان له نصيب من ثوابهم.
فعندما يتسمى الناس بالإسلام -والحمد لله على ذلك- دون أن يعمل به أكثرهم أو من أجله، ثم يجعلك الله -سبحانه وتعالى- تلتزم به وتدعو إليه في هذه الظروف؛ فذلك لأن الله ـسبحانه وتعالى- اجتباك لذلك واصطفاك وشرفك بأن تعمل للدِّين في أحلك الظروف، فإذا شاهدت قضاء الله وقدره وشهدت منته وفضله لم تعجب بنفسك، ولم تصب بالكبر والغرور، ولم تنسب الفضل إلى نفس جاهلة ظالمة، بل إن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي مَنَّ عليك بالإسلام والإيمان، إن كنت صادقاً فلا تمنَّ على أحدٍ بطاعتك وعملك وإسلامك، (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17).
فإذا شهدت قضاء الله وقدره فيمن يخالف الإسلام، وشهدت قضاء الله وقدره فيمن يطيع الله -سبحانه وتعالى-، وتعبدت الله بمقتضى ذلك من شهود فضله وشهود ملكه، وأنه -سبحانه وتعالى- هو الذي بيده الأمر كله، وله الحمد كله وبيده الخير كله -سبحانه وتعالى-، وإذا علمت أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وشهدت ذلك؛ شكرت نعمة الله -سبحانه وتعالى- عليك.
ثم هذا الشهود لقضاء الله وقدره وملكه وسلطانه وربوبيته، هو الذي يجعلك تنتقل إلى مشهد الاستعانة، حيث طلب العون من الله وحده لا شريك له، وهو من أشرف المقامات في مراتب العبودية، وهي إحدى العبادات، ولكن ذكرت هذه العبادة مؤكدة بعد دخولها في عموم (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، فأمرنا الله -سبحانه وتعالى- أن نقول: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، مع أن الاستعانة عبادة لله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه بدونها لا تتم العبادة، لأنه بدون الاستعانة بالله وبدون توفيقه لا تكون العبودية له -سبحانه-، استعينوا بالله... ومن أين تحصل هذه الاستعانة؟ من شهود أن الأمر بيد الله، وأن الملك ملكه، وأن الخلق كلهم نواصيهم بيده.
اسمع إلى قول المستعين حقًّا بالله -سبحانه وتعالى- من أنبياء الله -عز وجل-، وكيف كان موقفهم ممن يمكرون بهم؟ اسمع إلى قول الله -عز وجل- عن نوح -عليه السلام- فيما ذكر عنه فيما قال لقومه أنه قال: (يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ) (يونس:71)، لا يقول لهم: كفوا عني أو ابتعدوا عني ولا تؤذوني، وإنما يقول لهم: أجمعوا كل ما عندكم أنتم وشركاؤكم، وكيدونِ بكلِّ ما تقدرون عليه من كيد، ولا تؤخروني لحظة، (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً)، لا تترددوا (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ)؛ لأنه توكل على الله -عز وجل، سبحانه وتعالى-.
وقال هود -عليه السلام- مثلها حين قال قومه له: (إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ) (هود:54-55)، (كِيدُونِي) أي: اجتمعوا على كيدي، (ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ) أي: لا تؤخروني ولا تعطوني مهلة، لماذا؟ (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
سبحان الله! هذا القدر العظيم من التوكل على الله والاستعانة بالله جعله يحثهم -استهتارًا بمكرهم واستهانة بملكهم وتخطيطهم- على أن يكيدوا له، وأن يجتمعوا على ذلك؛ لأنه متوكل على مَن الخلق كلهم نواصيهم بيده (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا).
كان يدعو النبي -صلى الله عليه وسلم- بمثل ذلك كل ليلة، عندما يقول قبل أن ينام: (اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ) (رواه مسلم).
وبذلك نقول: إن الاستعانة تحصل في قلب العبد إذا استشعر أن الله هو الذي بيده نواصي الخلق، أمورهم كلها بيده، وكذلك إذا استحضر أنه ملك لله يفعل به ما يريد، وهو مطلوب منه أن يفعل ما أمر به من العبادة؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ -رضي الله عنه-: (يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ. أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ: لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، فأنت تستعين بالله على أن تظل ثابتًا، وعلى أن تظل عابدًا شاكرًا (أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ).
وقد طلب موسى -عليه السلام- المؤازرة بهارون، لكي يسبحا كثيرًا، فقال: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي . كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا . وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا . إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا . قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) (طه: 29-36).
فالاستعانة بالله -عز وجل- تنبع من شهود أن الأمر بيده، من شهود القضاء والقدر، ومرتبة الاستعانة -أي طلب العون من الله- إنما هي استعانة على عبادته -سبحانه وتعالى-، والله -عز وجل- جعل الناس في هذه المنزلة مراتب وأنواعًا، فمنهم مَن يستعين بالله -سبحانه وتعالى- على قضاء مصالحه الدنيوية فهو يتوكل على الله في أمر الرزق، وفي أمر الأولاد، وفي أمر الوظيفة، وفي أمر العمل، وغير ذلك، وهذا وإن كان حسنًا؛ إلا أنه ليس فقط هو المطلوب.
وكثير من الناس يستعين بالله -عز وجل- ويدعوه لنيل المحرم -والعياذ بالله-؛ فهو يتوجه إلى الله وليس في باله أن يطيع الله -عز وجل-!
وربما وجدت مَن يخرج لأكل الربا، يقول: "توكلت على الله"، ونجده فعلًا يسأل الله التوفيق في هذا العمل؛ لأنه حصل له الجهل المركب -والعياذ بالله-، ولم يعبأ بأن يبحث عن الشرع، ولم يتعلم شرع الله -سبحانه وتعالى-، ولذلك ظن الجاهل أنه يتوكل على الله لنيل معصية، وربما حصل له ذلك.
وإبليس لم يتوجه لغير الله لطلب المد في عمره، قال: (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (ص 79)، مَن سأل؟ سأل الله -سبحانه وتعالى-، وأعطاه الله ما سأل -والعياذ بالله-.
لماذا سأل إبليس ربه ذلك؟
لكي يستعين بهذا العمر الطويل على إضلال الناس، وعلى محاربة الله، فيا للعجب!
أيظن أن الله لا يدري، ولا يعلم ما في نفسه حتى كتم هذا الأمر إلى أن تأكد أن الله أنظره، فقال: (فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص 82-83)؟! لكنها نوعية عجيبة، ونوعية من المخلوقات غريبة، تستعين بالله على الكفر به ومعاداته ومعصيته، وتطلب منه وتستعين به على ذلك، نوعية غريبة، لكنها موجودة بالفعل ولا تسغربها.
وأعلى الناس قدرًا في أمر الاستعانة هو مَن يستعين بالله على عبادته، على طاعته؛ لأنه يعلم أنه لا يقدر على الطاعة إلا بتوفيق الله -سبحانه وتعالى-.
فالله -سبحانه وتعالى- يحب مَن يذكره، فهذا الأمر الأول: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ) (الأعراف: 128)، أما الأمر الثاني: (وَاصْبِرُوا) (الأعراف: 128).
فتأمل معي في حال مَن يحاربون المسلمين بالفعل في كلِّ المشارق والمغارب؛ ألا يصيبهم من الجراح، والقتل والمتاعب والشقاء؟!
بلى، يصيبهم ذلك كثيرًا من الجراح والقتل، والأمراض والبلاء، ومع ذلك هم على ما هم عليه صابرون، فهناك مَن يصيبه ذلك وهو في إثم في عاقبته، وهناك مَن تسلب صحته جزاء إفراطه في ظلم الناس ويبدل بها ضعفًا.
فهذا أخ من الأخوة بالأمس يحكي لي: إنه كان من شهرين أو من شهر ونصف في كمال القوة والعافية، وكان من عادته أن يظلم كثيرًا من الناس، فيقول: مررتُ به الأسبوع الماضي وقد أصيب بورم -يعنى سرطاني- فأخذت حنجرته كلها وأصبح في هزال شديد، من شهر ونصف فقط.
وهناك مَن يجيء له الألم بسبب طاعة الله -سبحانه وتعالى-، وهذا في الحقيقة ألم له مرارة، ولكن حلاوة الطاعة أذابته.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.