كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمن خصائص الأحكام الإسلامية أنها صالحة لكل زمان ومكان، وأنها تراعي الواقعية من جهة، وتفتح الباب لمن أراد العلو إلى المثالية، وهي قبل ذلك وبعده فيها مرضاة لله -تعالى-، وهناك من أحكام الشريعة أحكام تتعلق بالجوانب الاقتصادية في الأمة في الأخذ بها وتطبيقها كل الخير للفرد والأسرة والمجتمع.
ومعلوم أن قوة الأمة في زماننا في قوة اقتصادها التي تعزز من مكانتها بين الأمم، ولقد رأينا أممًا خرجت من الحرب العالمية الثانية مهزومة شر هزيمة، ثم لما استعادت قوتها الاقتصادية عادت لتتبوأ اليوم مكانة عالية بين الأمم من جديد.
إن الاقتصاد القوي يحافظ على حرية الأمة، واستقلال قرارها، ويمكِّنها من إعداد القوة العسكرية اللازمة لحماية وجودها وأمنها، ورد أي عدوان خارجي عليها، ومعلوم أن إعداد الدول للجيوش وتجهيزها برًّا وبحرًا وجوًّا يكلف تكلفة باهظة لا يتحملها إلا اقتصاد قوي متين؛ هذا إلى جانب الإنفاق المطلوب في مجالات الدولة الأخرى الحيوية من صحة وتعليم ونقل وخلافه، ولا يتسنى ذلك الإعداد الجيد إلا باقتصادٍ جيدٍ، وكم من أمم لها تطلعاتها وطموحاتها، لكنها عاجزة عن تحقيقها لضعف اقتصادها.
ومدار قوة الاقتصاد على زيادة إيرادات وموارد الدولة من جهة، وترشيد النفقات والمصروفات من جهة، وبالتالي يتحقق للدولة فائض يمكن توجيهه بما يقوي بنيان الأمة ويعلي كيانها ويحميه، وفي ما نراه من تأخر مجتمعاتنا يجعل من الواجب تحفيز الهمم للعمل والبناء، والبذل والعطاء، والأخذ بالمفاهيم التي جاء بها دين الإسلام ولها مردودها الكبير على اقتصاد الأمة -كما سنرى-، وهو دور علماء الأمة ودعاتها لنشر هذه المفاهيم والعمل بها، وهي كفيلة إن شاء الله -تعالى- بأن تؤتي أكلها بزيادة موارد الأمة ومكتسباتها، وتقليل نفقاتها وما يهدر من أموالها.
ومن أهم هذه المفاهيم الإسلامية الواجب على الأمة الأخذ بها والعمل بمقتضاها:
1- الأخذ بنظرة الشريعة الإسلامية للمال:
فالمال في الإسلام مال الله -تعالى-؛ استخلف عليه الإنسان ليقضي به احتياجاته المشروعة دون إسراف أو تبذير، وعليه استخدامه في إعمار الأرض، وعليه تنميته دون إضرار بالآخرين، فالمال في الإسلام هو وسيلة لا غاية، والحياة الدنيا في الإسلام معبر للآخرة، وقد أمر الله -تعالى- الإنسان فيها بالسعي فيها باطمئنان؛ إذ مقادير الأمور بيد الله -تعالى- وحده، وهو ينفق ما اكتسبه فيما يحبه الله -تعالى- ويرضاه.
فالمعيشة الحق مبنية على القصد وعدم الإسراف، فيأخذ المسلم من الدنيا قدر كفايته، وينفق ماله فيما يعود عليه بالنفع، قال -تعالى-: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد: 7)، وقال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31).
والإسلام يربط دائما بين الإيمان وبين زيادة الرزق، وبين حصول البركة والاستغفار، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق: 3)، وقال -تعالى-: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (هود: 3). وقال -تعالى- على لسان نوح -عليه السلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (نوح: 10- 12).
2- تحريم التعامل بالربا:
فالإسلام يحرم الربا تحريمًا باتًّا، ويعده من كبائر الذنوب، ويشن على المرابين حربًا لا هوادة فيها، ويتوعدهم في الآخرة بالعذاب الأليم، فالمرابي في الإسلام في حرب مع الله -تعالى-؛ قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 278-279)، فالربا في الإسلام ظلم يكدس به الأموال والثروات في أيدي فئة من الناس على حساب الآخرين وجهدهم وعرقهم؛ لذا فالربا ممحوق البركة، قال -تعالى-: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: 276). وفي الحديث المرفوع: (الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ إِلَى قُلٍّ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وللأسف فقد فشا الربا في بلادنا، وصار اقتصاد دولنا قائمًا على التعامل عليه، وهو من أعظم المنكرات التي يجب على المسلمين تركها ونبذها غاية النبذ.
3- الذنوب سبب للحرمان من الخيرات:
فالذنوب تجر إلى جانب العقوبات الأخروية والدنيوية، ويكفي أن القرآن الكريم قد ذكر لنا أن هزيمة المسلمين يوم غزوة أُحُد -وهو من أشد الأمور على نفوس المسلمين قسوة- إنما كانت بمخالفة الرماة لأوامر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان هذا الذنب سبب تحول تفوق المسلمين أول المعركة إلى هزيمة قاسية في آخرها، ولما سأل البعض: أنَّى هذا؟ كان الجواب: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران: 165)، فالعبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه؛ خاصة إذا استوجب العبد بذنوبه غضب الله -تعالى- عليه، ومقته عليه.
4- وجوب السعي للرزق والأخذ بالأسباب في ذلك:
فالعمل والتكسب وترك البطالة والتواكل مأمور به شرعًا، قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15)، وقال -تعالى-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة: 10).
لقد خلق الله -تعالى- الأرض وأودع فيها أقواتها، وجعل فيها معايش للخلق جميعًا، وسخَّر لهم كل ما عليها وفيها ثم دعاهم أن يعمروها، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (الأعراف: 10)، وقال -تعالى- على لسان صالح -عليه السلام- لقومه: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)، فليس لقادر على الكسب أن يترك فرصة عمل أمامه حتى وإن كان العمل فيها شاقًّا أو كان العمل عملًا لا يأبه الناس بصاحبه، فهو خير له وأولى من البطالة أو أن يعوله أخرون، وفي الحديث المرفوع: (لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ) (رواه البخاري).
فإن كان الفرد مسئولًا أيضًا عن أسرة أو أفراد آخرين كان العمل في حقه أوجب، وكفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول، وفي الحديث المرفوع: (لَا يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا وَلَا يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ وَلَا دَابَّةٌ وَلَا شَيْءٌ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ) (رواه مسلم)، فكل مَن ينتفع بزرعه -أو عمله- غيره كان له بزرعه -أو عمله- أجر عند الله -تعالى-، فالعمل وإن كان وسيلة الفرد للكسب؛ إلا إنه قبل ذلك وبعده باب للأجر والثواب، ولا شك أن حرص المرء على أن يكون له عمل يتكسب منه مهما كان يقلل من البطالة، ويخفف الأعباء على الأمة والمجتمع.
5- إخراج الزكاة للفقراء والمحتاجين:
كما هو معلوم فإن الزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة، وهي عبادة مالية يقدمها مَن زاد كسبه خلال عام كامل عن النصاب فصار به من الأغنياء الذين يجب عليهم تقديم جزء يسير حدده الشرع مما زاد عن احتياجاته للفقراء كل عام لمن يحتاج المال لفاقة ألمت به أو عجز عن العمل والتكسب. والزكاة مورد ضخم وعلاج فعَّال لمشكلة الفقر في المجتمع، وتخفيف للأعباء الملقاة على عاتق الأمة تجاه الفقراء في المجتمع، وتتضمن الزكاة أنواعًا عديدة، منها: زكاة المال، زكاة الحيوان، زكاة الزروع، زكاة الركاز، وزكاة الفطر.
وهذا باب فيه حث لمن أغناهم الله -تعالى- من فضله بالبذل والعطاء للمحتاجين، والزكاة في الإسلام حق للفقير في مال الغني بمقتضى الأخوة الإيمانية بينهما، فليست هي تبرع يقدمه الغني، والزكاة قدر معلوم لا يرهق الغني، لكنه يسد حاجة للفقير، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج: 24-25)، وللأسف فهي فريضة منسية لدى كثير من الأغنياء والموسرين، ولا ينتظر للأمة قوام وقيام إن أهملت أمر الزكاة فضاع فيها حق الفقير والمسكين، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج: 41)؛ هذا إلى جانب العقوبة المنتظرة يوم القيامة، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة: 34-35)، وللدولة حق جمع الزكاة وتولي توزيعها على الفقراء والمساكين، فتضمن بذلك تحصيلها من الأغنياء كاملة ثم صرفها في مصارفها التي أمر الله -تعالى- بها.
6- الحقوق المالية غير الزكاة:
وهذا باب تكلَّم فيه الفقهاء قديمًا وحديثًا لمعالجة حاجات تطرأ، ولم تكفِ موارد البلاد والزكاة لسدها، فعندها وبضوابط معينة يضاف على الغني وجوبًا أو استحبابًا إنفاق زائد على حدِّ الزكاة المفروضة، كما في الإنفاق على ذوي الأرحام وعلى الجيران المحتاجين، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ) (رواه مسلم)، وفي الحديث المرفوع: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)، والحديث المرفوع: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ) (متفق عليهما). وفي الحديث المرفوع: (مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).
وكما في الكفارات التي فيها إطعام مساكين: كحنث اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان، وكذلك الأضحية، وكالقرض الحسن لمن يحتاجه، قال -تعالى-: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ) (البقرة: 245)، وعموم أوجه الإنفاق في الخير، ومثلها الأوقاف، فكل ذلك من علامات البر والتقوى، قال -تعالى-: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 92)، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 274)، وقال -تعالى-: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39)، وقال -تعالى-: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد: 7)، وقال -تعالى-: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) (المزمل: 20). وفي الحديث المرفوع: (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) (متفق عليه). والحديث المرفوع: (مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ)، وقال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- راوي الحديث: "فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ، حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ" (رواه مسلم). ولا شك أن هذا أيضًا من صور تخفيف العبء عن كاهل الدولة بمشاركة كل الأغنياء القادرين في مساعدة المحتاجين.
7- تربية النفوس على القناعة والرضا:
فالحياة الدنيا في الإسلام معبر إلى الآخرة، يأخذ الإنسان منها ما يكفيه ويتيسر له، ولا يجهد نفسه ويرهقها -أو يهلكها- في تحصيل أكبر قدر من ملذات الدنيا بما هو فوق قدراته ولا يستطيع تحصيله، أو بما يحرم عليه شرعًا، ولا يتطلع إلى ما بيد غيره ممَّن فضلهم الله -تعالى- عليه في القدرات والرزق ابتلاء واختبارا لهم، ففي الحديث المرفوع: («مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، والحديث المرفوع: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ) (رواه مسلم)، والحديث المرفوع: (يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) (رواه مسلم)، وفي الحديث المرفوع: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا) (متفق عليه). ومعنى (قُوتًا) كما ذكر النووي: أي ما يسد الرمق.
8- التنفير من البخل والشح والتقتير:
قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67). وقال -تعالى-: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) (الليل: 8-9)، وقال -تعالى-: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9). وفي الحديث المرفوع: (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) (متفق عليه)، وفي الحديث المرفوع: (اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ) (رواه مسلم). وفي الحديث المرفوع: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) (متفق عليه). فالإسلام يحد من جشع المرء وطمعه وحرصه على المال؛ إذ إن التعلق بالمال وحبه يجعل المرء لا يشبع من الإكثار منه، بل وربما دفعه هذا الحب دفعًا إلى أن يمد يده للحرام.
9- تحريم الإسراف والتبذير وإضاعة المال:
فالإسراف والتبذير آفة، وإضاعة المال -وإن قلَّ- مفسدة: قال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء: 27). وفي الحديث المرفوع: (إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا؛ فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) (رواه مسلم). وفي الحديث المرفوع: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى ثُمَّ لِيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ) (رواه مسلم)؛ فأين هذا مما يضيعه الناس اليوم ويهدرونه ليل نهار في الاحتفالات والأفراح، والأعياد والمناسبات السعيدة وأوقات التنزه والترفيه؟!
10- كفالة اليتامى والأرامل:
وهي صورة خاصة مِن النفقة تراعي وتهتم بفئة من ضعفاء الأمة تحتاج إلى الكفالة التامة والرعاية الدائمة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا) وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. (رواه البخاري). وفي الحديث المرفوع عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ) (متفق عليه). وفي الحديث المرفوع: (اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ، وَالْمَرْأَةِ) (رواه النسائي بإسناد جيد). ومعنى (أُحَرِّجُ): ألحق الحرج، وهو: الإثم، لمَن ضَيَّع حقهما، وأحذِّر من ذلك، وأزجر عنه.
11- تفهم نظرة الإسلام للفقر:
لا يخلو مجتمع من وجود الفقراء والمحتاجين والضعفاء فيه، كما أن فيه الأغنياء الموسرين والمقتدرين، ولا لوم على الفقير لفقره إن كان لا قدرة له على التخلص من فقره؛ لعجزه وضعف إمكانياته أو لقلة مواهبه، وطالما قد أدى ما عليه، وأخذ بالأسباب التي تيسرت له في محاولة دفع الفقر عن نفسه ومَن يعول فلم تسعفه قدراته؛ فعليه أن يرضى بما قسم الله -تعالى- له، وليعلم أن هذا من الله -تعالى- ابتلاء له واختبار، فليستعفف وليصبر على البلاء، حتى يجعل الله -تعالى- له منه مخرجًا متى شاء، وكيف شاء -عز وجل-: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح: 5-6). أما مَن كان قادرًا على أن يغني نفسه ويدفع عنها الفقر فيجب ويتعين عليه ذلك بلا أدنى تردد؛ لئلا يعيش في هم ضيق العيش والحاجة للناس، ولئلا يضيِّع مَن يعول، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من الفقر ويسأل الله -تعالى- العفاف والغنى، فمن دعائه: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْفَقْرِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، و(اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى) (رواه مسلم). ودعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنس -رضي الله عنه-: (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ) (متفق عليه). وكان في الصحابة أغنياء، منهم: عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان. وكان منهم فقراء: كبلال، وأبي هريرة -رضي الله عنهم أجمعين-.
والزهد في الدنيا لا يعني أن يكون الإنسان فقيرًا معدمًا، ولكن الزهد في الدنيا أن تزهد فيما تملك ولا تتعلَّق به، فالزاهد حقًّا من ملك الدنيا بين يديه، ولكنه لم يجعلها في قلبه. والسعادة الحقيقية -لا المزيفة- تأتي من داخل النفس لا مَن تملك زخارف الدنيا وزينتها؛ لذا فمَن قنع بما قسم الله -تعالى- له -وإن قلَّ- كان أغنى الناس، ومن لم يقنع بما ملك وإن كثر فهو المحروم؛ لذا يحرم في الإسلام سؤال الناس إلا لمن استحق المسألة، ففي الحديث المرفوع: (إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ) رواه أصحاب السنن وحسنه الترمذي. و(الفقر المدقع) أي: الفقر الشديد، و(الغرم المفظع) أي: الدين الثقيل، و(الدم الموجع) أي: الدية التي التزم المرء بتحملها في حقن الدماء أو إصلاح ذات البين، ثم لا يقدر على القيام بها بمفرده.
12- القيام بكل فروض الكفايات:
وهذا باب واسع يجب بمقتضاه سد كل الثغرات بالقيام بكل فروض الكفايات في الأمة، من إقامة الحرف التي لا غنى عنها، ودعم الزراعات والصناعات والتجارات المختلفة، وتحصيل كل العلوم الحديثة في كل المجالات، وتهيئة العدد اللازم من الكوادر العلمية والفنية في التخصصات المختلفة التي يحتاج إليها المجتمع؛ إذ إن افتقار المجتمع لجزئية مما سبق في أي مجال من مجالات الحياة يصبح فيه المسلمون عالة على غيرهم، وربما فتح الباب لتحكم غيرهم فيهم بما لا يحمد عقباه، وهذا في زماننا مشاهد معلوم ما زالت تكتوي الأمة بناره.
والمساهمة في تحقيق ذلك في الإسلام هو مسئولية كل أفراد المجتمع بلا استثناء، فهو فيهم فرض عين كل بحسب طاقته وقدرته وما يستطيع، ولا تسقط هذه المسئولية إلا بتحقيق الأمر المنشود وسد ثغرته على الوجه الأكمل، فالقادر على الدعم المادي والتعاون الفعلي فليقم به، ومن عجز عن ذلك فينبغي عليه النصح والإرشاد والحث لمن يقدر على ذلك حتى يؤديه، كما ينبغي على رجال الأعمال وأصحاب الأموال وكبار المستثمرين استثمار أموالهم وطاقاتهم في المشاريع الكبيرة الجادة التي تغطي فروض الكفايات في الأمة في مجال الإنتاج، خاصة الإنتاج الثقيل أو الإنتاج المتقدم علميًّا، كصناعة الحديد والصلب، وإنتاج السيارات والمركبات، وصناعة أنواع الأجهزة الإلكترونية، ونحوها.
13- النفقة في تجهيز المجاهدين والدعاة في سبيل الله:
قال -تعالى-: ( وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (التوبة: 41)، وفي الحديث المرفوع: (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا) (متفق عليه). وفي الحديث: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ إِلَى بَنِي لِحْيَانَ: (لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ)، ثُمَّ قَالَ لِلْقَاعِدِ: (أَيُّكُمْ خَلَفَ الْخَارِجَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِخَيْرٍ كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ) (مسلم). وعن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ، فَقَالَ: هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ) (رواه مسلم). وفي الحديث المرفوع: (مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ الله كُتِبَتْ لَهُ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وعن أبي أمامة مرفوعًا: (مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، أَصَابَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، ولا يخفى أن الأمة اليوم في أشد الحاجة إلى هذا الإنفاق في سبيل الله -تعالى-.
وبعد، فقد تبيَّن بهذا العرض الموجز لهذه المفاهيم الإسلامية أنها إن طبقت تطبيقًا جيدًا يوافق الشرع ومقاصده، يكون لها إن شاء الله مردودها الكبير على الفرد أولًا وعلى مَن حوله ثانيًا، وعلى المجتمع عامة، ومن وراء ذلك على اقتصاد الأمة ككل. وهذا يوجب على علماء الأمة ودعاتها والمصلحين فيها خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية بيان هذه المفاهيم الإسلامية وغيرها مما يتفق معها بيانًا تفصيليًّا شافيًا مدعومًا بالأدلة من الكتاب والسنة، لبثِّ روح البذل والعطاء الإيجابي ونبذ روح السلبية والتواكل، لنيل الأجر والثواب من الله -تعالى- في الدنيا والآخرة.