كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114).
إن قضيةَ الاستغفار والتَّرَحُّم على الكفار بعد موتهم؛ خاصة إذا كانوا أقارب، أو ممَّن قدَّم شيئًا لخدمة الإسلام أو الأوطان، أو حتى لمجرد المجاملة؛ مِن أهم قضايا الولاء والبراء التي شغلتِ الصحابة قديمًا، ولا تزال تشغل المجتمعات، والجماعات الإسلامية، ومراكز الفتوى حديثًا؛ خصوصًا مع اختلاط المفاهيم، وتداخل مسائل المعاملة بالبرِّ والقسط مع مسائل الولاء والبراء والاعتقاد، بل قد صارتْ مسألة مساواة الأديان، بل وحدتها مما يعتقده كثيرٌ مِن الناس، وكثير منهم ينتسِب إلى الإسلام اسمًا، وكثر الجهل وعظمت البدع الكفرية؛ فضلًا عما دونها في هذا الباب حتى اختلط الأمر على كثيرٍ مِن الناس، فلم يدروا ما الحق مِن الباطل في هذه القضية!
والقرآن دائمًا فيه الحياة للقلوب من موتها بالجهل والكفر، وشفاؤها من أمراضها، ونورها من ظلمات الكفر والظلم والجهل.
وفيه: بيان الأسوة الحسنة للمؤمنين في أنبياء الله -سبحانه وصلواته عليه وسلامه أجمعين-، وخاصة إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ أبو الأنبياء مِن بعده، وأكثرهم بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بيانًا لقضية البراءة من الشرك، فبيَّن الله في هذه الآية الكريمة الحكم الشرعي الواجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين مِن حرمة الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربًا، ثم بيان شبهة البعض لاستغفار إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم- لأبيه.
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "روى الإمام أحمد: عن ابن المسيب، عن أبيه قال: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ: (أَيْ عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ بِهَا لَكَ عِنْدَ اللهِ)، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟! قَالَ: فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ) فَنَزَلَتْ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة: 113)، قَالَ: وَنَزَلَتْ فِيهِ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (القصص: 56). أخرجاه -أي: البخاري ومسلم في الصحيحين-.
وروى الإمام أحمد بسنده عن علي -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَقُلْتُ: أَيَسْتَغْفِرُ الرَّجُلُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَسْتَغْفِرْ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) إِلَى قَوْلِهِ: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) (التوبة: 113 - 114)، قَالَ: (لَمَّا مَاتَ). فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل، أو هو في الحديث: (لَمَّا مَاتَ). قلتُ: هذا ثابت عن مجاهد أنه قال: لمَّا مَات.
وقال الإمام أحمد بسنده عن ابن بريدة، عن أبيه قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم، وقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَكَ؟ قَالَ: (إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي -عز وجل- فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّي، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَدَمِعَتْ عَيْنَايَ رَحْمَةً لَهَا مِنَ النَّارِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا؛ لِتُذَكِّرَكُمْ زيارتُها خَيْرًا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَكُلُوا وَأَمْسِكُوا مَا شِئْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ فِي الْأَوْعِيَةِ، فَاشْرَبُوا فِي أَيِّ وِعَاءٍ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا).
وروى ابن جرير، من حديث علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قَدِم مكة أتى رسم قبر، فجلس إليه، فجعل يخاطب، ثم قام مستعبرًا. فقلنا: يا رسول الله، إنا رابنا ما صنعت. قال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فما رئي باكيًا أكثر من يومئذٍ (قلتُ: الظاهر أنه يقصد لما كان في طريق قدومه لمكة؛ لأن آمنة بنت وهب ماتت بين مكة والمدينة).
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى المقابر، فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبرٍ منها، فناجاه طويلًا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب، فدعاه ثم دعانا، فقال: ما أبكاكم؟ فقلنا: بكينا لبكائك. قال: إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي. ثم أورده من وجه آخر، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبًا منه، وفيه: "وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، وأنزل عليَّ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى)، فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة".
حديث آخر في معناه: رواه الطبراني بسنده، عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر، فلما هبط من ثَنِيَّةِ عُسْفان أمر أصحابه: أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم، فذهب فنزل على قبر أمه، فناجى ربه طويلًا، ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه، وبكى هؤلاء لبكائه، وقالوا: ما بكى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا المكان إلا وقد أحدث في أمته شيء لا تطيقه. فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: يا نبي الله، بكينا لبكائك، فقلنا: لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه. قال: لا وقد كان بعضه، ولكن نزلت على قبر أمي فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة، فأبى الله أن يأذن لي، فرحمتها وهي أمي، فبكيت، ثم جاءني جبريل فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) فتبرأ أنت من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه، فرحمتها وهي أمي، ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعًا؛ فرفع عنهم اثنتين، وأَبَى أن يرفع عنهم اثنتين: دعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وألا يلبسهم شيعًا، وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج. وإنما عدل إلى قبر أمه؛ لأنها كانت مدفونة تحت كَدَاء وكانت عُسْفان لهم. قال: وهذا حديث غريب وسياق عجيب (قلتُ: حديث ضعيف منكر، لا يصح).
وأغرب منه وأشد نكارة: ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب: "السابق واللاحق" بسند مجهول، عن عائشة في حديث فيه قصة: أن الله أحيا أمه فآمنت ثم عادت. وكذلك ما رواه السهيلي في "الروض" بسندٍ فيه جماعة مجهولون: أن الله أحيا له أباه وأمه؛ فآمنا به! وقد قال الحافظ ابن دحية: "هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع؛ قال الله -تعالى-: (وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) (النساء: 18)".
وقال أبو عبد الله القرطبي: إن مقتضى هذا الحديث... ورد على ابن دحية في هذا الاستدلال بما حاصله: أن هذه حياة جديدة، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى عليٌّ العصر، قال الطحاوي: وهو حديث ثابت، يعني: حديث الشمس. قال القرطبي: فليس إحياؤهما يمتنع عقلًا ولا شرعًا، قال: وقد سمعتُ أن الله أحيا عمه أبا طالب، فآمن به. قلتُ: وهذا كله متوقف على صحة الحديث، فإذا صح؛ فلا مانع منه. والله أعلم" (انتهى من تفسير ابن كثير).
ولا شك في بطلان الأحاديث الواردة في إحياء والدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبطل منها عمه؛ فهذا لا يصح ولا يثبت، بل ثبت النهي عن الاستغفار ولم يثبت خلافه، وثبت قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي سأله: أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: (فِي النَّارِ)، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).
ووجه ذلك: أنهم قد بلغتهم رسالة من رسالات الأنبياء، ودعوة التوحيد والحنيفية؛ فقد بلغتهم دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، ودعوة موسى، ودعوة عيسى على التوحيد؛ فلم يكونوا معذورين. والله أعلى وأعلم.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.