كتبه/ شريف الهواري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا يخفى علينا ما أحدثته الدولة الفاطمية الشيعية الخبيثة حينما سيطرت على بلاد الشام ومصر وبعض بلاد المغرب العربي، وكان ما حرصت عليه ما هو معلوم للقاصي والداني، حينما أفسدت العقائد، وبنت القباب على القبور، وكان نشر الفساد والضرائب والمكوس وانحدار الأخلاقيات والسلوكيات، وعمَّ الظلم والبغي والجور، وكان للخمر أثر خطير حيث عَمَّت به البلوى، فمرت الأمة من ضعف إلى ضعف إلى ضعف، حتى تحركت الدولة الصليبية ودخلت إلى بلاد فلسطين، وأحدثت ما أحدثت من سفك الدماء، ومن العربدة والإهانة، والأمة غارقة في شهواتها، لا تلوي على شيء!
واستمر هذا الوضع المؤلم حتى دخلوا بعد حيفا ويافا وعكا إلى القدس الشريف "المسجد الأقصى"، وقتلوا في ساحته أكثر من 60 ألف مسلم، حتى سالت الدماء فكانت كالسيول في الطرقات، وجعلوا المسجد الأقصى نكاية في المسلمين مقلبًا للقمامة، وعلَّقوا عليه الأجراس، ورفعوا فوقه الصلبان، واستمروا جاثمين على صدر هذه الأمة أكثر من تسعين سنة، والأمة في غيبوبة وسبات، وفي نوم عميق!
حتى قيّض الله -تبارك وتعالى- شابًا يدعى: "محمود نور الدين زنكي"؛ ورث مملكة صغيرة عن والده في بلاد الشام؛ قام لله بحقه، ودعا الناس إلى التوبة والإنابة، والإقبال على القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وقضى على المكوس والخمور والضرائب، ودعا إلى مكارم الأخلاق، وإلى العمل بهذا الدين العظيم، وبعد أن انتفضت بلدته معه، وآبت إلى ربها وأقبلت على بيوت ربها تتعلم التوحيد والسنة أفاقت، فما كان منه إلا أن قام بصنع منبر، فقال: "ائتوني بنجار ماهر، فأتوه به، فقال: اصنع لي منبرًا يليق بالمسجد الأقصى"، كان هذا الكلام آنذاك حلمًا بعيد المنال، هذه دويلة صغيرة لا حول لها ولا قوة، لكن الرجل أراد أن يبثَّ روح الأمل في نفوس المسلمين، وصنع المنبر، وكلما مرَّ الناس قالوا: "ما هذا؟ يقولون: منبر الأقصى سيوضع فيه حال تحريره"، ومِن الناس مَن يصدق، ومنهم مَن يتعجب، ومنهم من يقول: ها! كأن الأمر بعيد المنال.
ثم انطلق من بلدته إلى بلدات مجاورة، يفعل ما فعل ببلدته، والأمة -سبحان الله!- تنتفض بسرعة عجيبة، وتؤوب إلى ربها وإلى سنة نبيها، ويجتمع الناس عليه، والمنبر معه يتجول به في كل مكان، وكأن الأمة قامت من رقدتها، وبدأ يتحرك عليه رحمة الله، حتى شرع في الدخول إلى فلسطين، وحرر البلاد بلدة بلدة، والمنبر يرافقه، ولكن قُبِض قبل أن يتمَّ حلمه، وكان من جنوده ذاك الشاب: "صلاح الدين الأيوبي"؛ الذي ترقى في المناصب حتى أمسك بزمام الأمور والقيادة، وواصل المسير، حتى حاصر الصليبيين في المنطقة المقدسة، حتى نزلوا على حكمه وسلَّموا له مفاتح بيت المقدس فدخله في يوم مشهود، وكان هذا من أيام الله -تبارك وتعالى-، وقام بنفسه -عليه رحمة الله-؛ فرفع القمامة في عباءته من المسجد الأقصى حتى قام بتطهيره، وتطييبه، وتأهيله وإعداده وكان ذلك في يوم جمعة، وقام بعمل عظيم يعد علامة فارقة في عودة الأمة من جديد؛ أن سأل عن أعلم أهل البلاد الإسلامية آنذاك وقدَّمه خطيبًا للجمعة، قيل: فلما كبَّر المؤذن ارتج المسجد بالبكاء، وحمد الله -تبارك وتعالى- بمحامده التي وردت في كتابه حتى ختم بقوله -عز وجل-: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 45).
وهكذا عاد الأقصى وعادت فلسطين بعد أكثر من تسعين سنة، بعد أن فقد ضعاف الإيمان الأمل، في العودة من جديد، ولكنه عاد بفضل الله -تبارك وتعالى-.
ومَرَّت الأيام ومرت السنون، حتى زُرعت الدولة اللقيطة ظلمًا وعدوانًا وبغيًا من الإنجليز ومَن عاونهم "وعد مَن لا يملك لمَن لا يستحق"؛ فكان زرع هذه الدولة اللقيطة وبالًا على المسلمين، لأنها كانت عقوبة من الله -تبارك وتعالى-، لانحراف الدول والممالك الإسلامية وسقوطهم في الشهوات والبدع والخرافات، والخزعبلات، وقد كان ما كان من الظلم والفساد والجور والبغي، فواصل إخوان القردة والخنازير أكثر وأكثر فاحتلوا القدس، وتمكنوا منها في نكسة 1967م، ومن ساعتها والأقصى يئن تحت أيديهم؛ يتمكنون في الداخل فيه والخارج منه، ويضيقون على أهله وجيرانه، حتى في أداء العبادات والطاعات والقربات في مواسم الخير، وغيرها، حتى كان -مع الأسف الشديد- ما نسمع في هذه الأيام مما يجري في المخيمات؛ سواء في القطاع أو في الضفة، حتى فقد كثير من المسلمين الأمل، لا أقول في عودة الأقصى وحسب، بل وفي عودة فلسطين بأكملها، لكن هذه حال مَن انهزم نفسيًّا، وأصيب بيأس وإحباط، والمؤمن لا يعرف ذلك.
وطريق العودة الجديد كالطريق القديم سواء بسواء؛ فلا بد من توبة صادقة ونصوح؛ لأن الذي سُلط به اليهود على مقدساتنا وعلى إخواننا إنما مِن صنع أيدينا كمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والضعف والخور، والمذلة والانكسار، وذهاب الهيبة والريح، واجتراء القوم على المسلمين وعلى مقدساتهم إنما بصنع أيديهم؛ قال -تعالى-: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران: 165)، وقال: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30)؛ لذلك التوبة ترفع عنا هذا العبء الكبير الذي تسبب لنا في الوباء والبلاء والغلاء.
وما يجري حول مقدساتنا إنما بسبب ذنوبنا ومعاصينا؛ فبالتوبة سنتخلص، ثم بعدها نعمل على تزكية أنفسنا، وترويضها وتأهيلها، وربطها بالكتاب والسنة، وتعليمها: أن المخرج والنجاة إنما في العقيدة الصحيحة الراسخة التي تعطي الطاقة والوقود، وقوة الدفع الذاتية، والشعور بالمسئولية، وأداء الواجبات والحقوق والعودة من جديد، ثم بالأخذ في الأسباب التي بوسعنا ومقدورنا، قال -تعالى-: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) (الأنفال: 60).
ثم بعد ذلك الأخذ بالأسباب الإيمانية، مثل: التوكل على الله -تبارك وتعالى-، والصبر والتقوى والاستقامة، والدعاء، والتضرع، والمناجاة، وتحقيق الإخوة الإيمانية، والعمل بروح الفريق الواحد كالجسد الواحد، وكالبنيان المرصوص؛ عندها سيعود الأقصى وستعود فلسطين، بل والله ورومية والأندلس... وإن تصدقوا الله يصدقكم، ومَن يتحرى الخير يعطه.