الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 10 مايو 2023 - 20 شوال 1444هـ

حال الصادقين بعد رمضان (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

المقدمة:

- رمضان سوق قد انفض، ربح فيه مَن ربح، وخسر فيه مَن خسر: كان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول مع آخر ليلة من رمضان: "ليت شعري من المقبول؟ فنهنيه، ومن المحروم؟ فنعزيه". وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ) (متفق عليه).

- لقد فاز الصادقون بالأجر العظيم والفضل العميم، ولكن ما العلامات والأمارات التي يعرف بها الصادقون في رمضان بعد رحيل رمضان؟

(1) الصادقون بعد رمضان مشغولون بالقبول:

- الصادقون بعد رمضان حالهم كحال التاجر الناصح لتجارته، فهو ينظر في (الأرباح ثم رأس المال ثم الخسارة).

- الصادقون بعد رمضان في وجل وخوف وشفقة من قبول أعمالهم: سألت عائشة -رضي الله عنها- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن قوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون: 60)، قَالَتْ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟! قَالَ: (لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

- الصادقون بعد رمضان يتلمسون كل ما يبشرهم بقبول الله لأعمالهم: عن نافع مولى بن عمر، قال: دخل على ابن عمر سائل يسأله، فقال لابنه: أعطه دينارًا، فأعطاه، فلما انصرف قال ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه، فقال ابن عمر -رضي الله عنهما- " يا بني، لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة أو صدقة درهم؛ لكان فرحي بالموت أشد من فرحة الأهل بعودة الغائب، فان الله قال: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27)". وذكر ابن رجب -رحمه الله- عن معلَّى بن الفضل: "أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان".

(2) الصادقون بعد رمضان يحرصون على المداومة والمواصلة:

- تمهيد: أبرز علامات القبول بعد رمضان: المداومة والمواصلة لجنس الطاعات، وعدم الانقطاع، وهو مفهوم تشريع صيام الست من شوال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن صامَ رَمَضانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ، كانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ) (رواه مسلم).

تنبيه مهم:

- لن يستطيع أحدٌ أن يصل إلى ما كان يعمل في رمضان، ولكن يسدد ويقارب: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ‌مَا ‌لَا ‌يَجْتَهِدُ ‌فِي ‌غَيره" (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا) (رواه البخاري).

- الصادقون بعد رمضان يعلمون ذلك جيدًا، فيحرصون أشد الحرص على المداومة لجنس الأعمال دون انقطاع: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ) (متفق عليه)، وقال تعالى: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) (المعارج: 23)، وقال بعض السلف: "إذا رأيتَ الرجل على الطاعة مداومًا؛ فاعلم أن لها عنده أخوات "(1).

- الصادقون بعد رمضان يحذرون أشد الحذر من الانقطاع والانتكاس؛ لأنه من علامات الحماقة وعدم الإخلاص: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) (النحل: 92)(2).

- الصادقون بعد رمضان لا يغترون بما قدموا؛ لأنهم يعلمون أن العبادة وظيفة العمر: قال -تعالى-: (‌وَمَا ‌خَلَقْتُ ‌الْجِنَّ ‌وَالْإِنْسَ ‌إِلَّا ‌لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، وقال: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 99)، وقال: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) (مريم: 65)، وقال: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162). وسُئِل الإمام أحمد: " متى الراحة؟ قال: عندما تضع أول قدم من قدميك في الجنة" (المقصد الأرشد).

(3) الصادقون بعد رمضان مشغولون بالخاتمة الحسنة لأعمارهم:

- الصادقون بعد رمضان يعتبرون من سرعة انقضاء رمضان على سرعة انقضاء الآجال: قال -تعالى- عن قصر عمر الدنيا: (زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) (طه: 131)، قال -تعالى-: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) (البقرة: 184)، وقالوا: "كل معدود قليل".

- الصادقون بعد رمضان عَلِموا أن الدنيا القصيرة مرحلة تزود، ثم رحيل كما يرحل رمضان ويرحل كل شيء: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) (رواه البخاري).

- الصادقون بعد رمضان علموا أن الاستقامة والاستمرار في الطاعة سبب في حسن الخاتمة: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) (فصلت: 30-33)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا ‌اسْتَعْمَلَهُ). فقيلَ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ المَوْتِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

(خاتمة): ماذا يفعل مَن قَصَّر في رمضان؟

- عليه بالتوبة والندم والرجوع: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران: 135-136).

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار كتابًا قال فيه: "قولوا كما قال أبوكم آدم: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف: 23)، وقولوا كما قال نوح: (إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ) (هود: 27)، وقولوا كما قال موسى: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (القصص: 16)" (لطائف المعارف).

- لزوم طريق الصادقين، واجتناب طريق الفاسدين، ففي حديث قاتل المائة كان من أسباب نجاته من عذاب الله، هجره أهل السوء ومكان السوء: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثُمَّ سَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى رَجُلٍ عالِمٍ، فقالَ: إنَّه قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ، ومَن يَحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلى أرْضِ كَذا وكَذا، فإنَّ بها أُناسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فاعْبُدِ اللَّهَ معهُمْ، ولا تَرْجِعْ إلى أرْضِكَ، فإنَّها أرْضُ سَوْءٍ...) (متفق عليه).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) من جنس الأعمال: (صيام النوافل بعد رمضان ـ قيام الليل ولو بركعتين ـ المحافظة على قسط من قراءة القرآن يوميًّا ـ التصدق ولو بالقليل من المال أو الأعمال الصالحة ـ الدعاء والتضرع ولو بين الأذان والإقامة ـ وهكذا...).

(2) الإشارة إلى بعض صور الانتكاس (الذين لا يعبدون الله إلا في رمضان ـ المؤجلون للذنوب في رمضان ـ ...).