(بين وداع ووصية)
كتبه/ أحمد شهاب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمهما كثرت الدموع، ومهما كانت حرارة المشاعر، ومهما زادت الأحزان؛ إلا أنها لا تعبِّر عما في القلب من ألم ولوعة على فقد حبيبي وصديقي وأخي، ورفيق دربي، محمد جمال بدوي؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.
ماذا أقول عنه وقد تحدثت عنه جنازته بأبلغ عبارة؟!
فمع كثرة حضور جنازات إخوة ومشايخ أفاضل، فجنازة محمد تبدو لي أصدق جنازة حضرتها؛ ليس بالعدد، ولكن بصدق ما رأيته فيها، ولا أتكلم عن تلك الجموع من جميع أنحاء الجمهورية، ولا أتحدث عمن جاء من أقصى من الصعيد على عجل وهو صائم، ولا عن وجوه لم تتلاقَ منذ أكثر من عشر سنوات، بل أتكلم عن ذلك الصدق البادي للعيان؛ إذ لا تكاد تجد مَن هو مشغول بالتصوير لذلك الجمع المهيب، ولا بالسلام على أحد من إخوانه، ولا حتى من المشايخ الأفاضل الكثيرين.
فقط الجميع يدعو، والعموم يبكي في صمت؛ وقفوا عند القبر بعد الدفن أكثر من ساعة (دون قصد)، لا ينظر أحد لغيره، بل منشغل بنفسه يدعو الله دون تكلف، ودون اهتمام بغيره، ليس أنه يقصد أن يطيل الوقوف، لكن فقط هو مستمر في الدعاء، لا يستطيع أن يتوقف عن دعاء وبكاء مع صعوبة الوداع والفراق -مع أن ألم الفراق لم يكن بدأ بعد-.
هذا الكم من الشعور الصادق من عدد كبير من الحضور بهذه الطريقة، أتدري لماذا؟!
نحسب -والله أعلم- أنه لشيء وقر في قلبه، ثم لمحبته الصادقة لإخوانه؛ فهو -نحسبه- صادق الود بشكل عجيب، حتى كنا نتحدث أنا وبعض مَن هم مِن أقرب الناس إليه أننا نعلم أنه أصدقنا ودًّا بلا منازع، حتى قال أحدنا: "هو يحب كل واحد منا أكثر من حبنا له، ومن حبنا لبعضنا!".
ثم لأن أثره كان فرديًّا مع كثير من هؤلاء، فالكثيرون منهم كان ارتباطهم به في تدينهم ارتباطًا شخصيًّا؛ فليس هو شيخ كبير أو مشهور، لكنه مع علمه وفهمه، وتميزه، وحسن بيانه؛ تجده طيب العشرة، حسن الخلق، صادق الود، كريم الطبع، شديد التواضع؛ ذا أدب باهر، وإحسان آسر مع بسمة ودودة لا تكاد تنساها!
وأنا لا أتكلم عن شخص عرفته فترة أو قابلته مرات، أو جلست معه أوقات، بل أتكلم عن شخص عشت معه في غرفة واحدة سنوات، واستمرت صدقاتنا ولقيانا لأكثر من 15 سنة لم تنقطع أبدًا، ومع طول هذه المدة لم أسمع منه كلمة نابية، ولا لفظة خادشة، ولا عبارة جارحة، بل ولا ما دون ذلك؛ كان شخصية مؤدبة ودودة إلى أبعد حدٍّ، سهلًا هينًا لينًا قريبًا، بسَّام المحيا.
ثم هناك ملمح عجيب في شخصيته، وهو: أنه قليل الشكوى جدًّا، رغم معرفتي بظروف كثيرة مر بها -وبعضها كان شديدًا-؛ فلا أكاد أذكر أنه جلس يشتكي ولو من باب الفضفضة، بل غالبًا يلتزم الصمت عن ذلك، بينما هو حسن الاستماع جدًّا، والتقدير والاهتمام لشكاوى وظروف الآخرين.
ثم ظهر ذلك جليًّا في مرضه الشديد بعد الحادث، فكل ما كان يقوله هو: "تعبتم نفسكم ليه!"؛ فلا شكوى ولا تضجر، بل رضا وحمد ودعاء، ونظر للسماء.
كان كل ما يتمناه أن يبلغه الله رمضان، قالها بصدق -نحسبه-؛ فبلغه الله رمضان، ومات في يوم غزوة بدر 17 رمضان، نسأل الله أن يكون عنده شهيدًا.
أما عن تميِّزه في العلم والعمل والدعوة؛ فحدِّث ولا حرج؛ فيكفيك في بيان تميزه عن كلِّ أقرانه أنه عندما تم المؤتمر الوحيد لشباب الدعوة السلفية على مستوى الجمهورية من أقصاها لأقصاها، وكان هذا المؤتمر في قاعة الأزهر الشريف، تم اختيار واحد فقط من الشباب ليتكلم، فكان هو محمد جمال مَن يقدِّم الحفل ومن يمثِّل هؤلاء الشباب جميعًا في هذا الملتقى لشباب الدعوة على مستوى الجمهورية، مع أنه كان صغير السن وقتها، فهذه الواقعة مر عليها أكثر من 11 سنة، وقبلها بكثير كان محمد هو الذي يصوغ كل بيان لأسرة "نبض الأزهر"، رائدة العمل الطلابي بجامعة الأزهر وقتها.
ولا أكاد أتذكر أنه كان يُقدَّم عليه أحدٌ في ندوة أو محاضرة أو تدريس أو كتابة، فكان هو الكلمة الرئيسية في حفل تخرج نظمناه لدفعتي، دفعة طب 2010 مع كونه لا زال طالبًا في كلية هندسة.
وعندما يكون هناك شرح من شروح الإخوة سيُعتمد في قضية من القضايا الفكرية كمرحلة تمهيدية، فهو من يتم اعتماد شرحه الذي يسجله بصوته ليسمعه المدرسون الشباب في العقيدة والقضايا الفكرية، وعندما نريد محاضرة عن كيف تشرح كتاب كذا أو قضية كذا؟ وكيف تدير حلقة علمية ناجحة؟ وكيف كذا وكذا؟ كل هذا يختم باختيار محمد جمال لهذه المهمة؛ فمحمد جمال هو الاختيار رقم واحد في أي أمر من هذه الأمور منذ أكثر من عشر سنوات، وإلى قبيل وفاته.
عنده غَيْرَة على المنهج والدعوة مع وفاء جميل؛ ظهر ذلك الوفاء جدًّا في حرصه على جمع تراث شيخه الشيخ هيثم توفيق أكثر من حرص كثيرين منا ممَّن قد تكون علاقتهم بالشيخ هيثم أسبق وأوثق.
سبحان الله! أن جمع بين ملكات وسمات وأخلاق ثم مع ذلك تجد ذلك التواضع الشديد وذلك الاحترام البالغ، فمع كل هذا هو مَن يسارع إلى خدمتنا مع أننا نراه أكثرنا تميزًا.
وما يجول بخاطري عن أخي محمد كثير وكثير، وهو يستحق أكثر منه، لكنني أكتفي بما سبق، وأما عما في القلب فعزاؤنا ما بدا لنا من أمارات حسن خاتمته في مرضه ثم في وفاته وجنازته وما لحقهما من دعوات صالحات وصدقات عنه وعمرات، حتى إنه في أول يومين فقط بلغنا أنه أُحرم عنه بما يقارب العشرين عمرة من إخوانه وأحبابه، ولا زال هناك المزيد، وأملنا في الله أن يثبتنا حتى نلقاه على خير في جنة الفردوس إخوانًا على سرر متقابلين.
فالله يتولانا ويتولاه، وهو يتولى الصالحين، نسأل الله أن نكون منهم.
لكن لا ينبغي أن نكتفي بعاطفة مجردة ولا بمراثي منمقة، بل لابد من التأسي في الخير، وكما قيل: "لا تكن للخير وصَّافًا وفقط، بل كن بالخير موصوفًا، فإن الواو والراء والدال لا يشم منها رائحة الورد".
فلا بد أن ننتقل إلى بعض التوصيات لتكون وفاته سببًا في خيرات وبركات، ولننتقل من خانة المشاعر إلى ترجمتها إلى عمل نافع وتغير للأفضل، فالحياة مع الإيمان نعمة، ولا زال هناك لنا مستعتب ومستدرك، الله أعلم بمداه؛ فلنغتنم الفرصة. نسأل الله أن يغفر لنا ما سبق ويخلف علينا خيرًا، ويسددنا فيما بقي ويبارك لنا فيه.
والتوصيات كثيرة أكتفي منها بخمس -حتى لا ينسي بعضها بعضًا-:
أما الوصية الأولى: فهي لنفسي ولإخواني، تعجلوا وسارعوا، وبادروا وسابقوا؛ لنبادر الآن بما نستطيع، ولننتقل من خانة التخطيط إلى خانة العمل والتنفيذ؛ زر قريبًا أو أخًا في الله، صِل رحمًا، بِر والدًا، تعلم خيرًا، أحسن ليتيم وتصدق على مسكين، أحسن فيما بقي وبادر للخير قبل فوات الأوان، دع التسويف والتمني، وافعل ما تستطيع الآن منشغلًا بواجب الوقت، الآن الآن.
وتذكر هذا التحذير من سفيان: "تعجلوا بركة العلم، ليُفد بعضكم بعضًا، فإنكم لعلكم لا تبلغون ما تؤملون"، وما أصعب هذه الكلمة على النفوس: "فإنكم لعلكم لا تبلغون ما تؤملون"، لكنها الحقيقة المُرَّة: أن الموت يأتي في أي وقت وبدون سابق إنذار!
نعوذ الله من موت الفجأة، ونسأله حسن الخاتمة.
وأحيلكم على مقال بهذا العنوان (تعجلوا بركة العلم)؛ http: //www. salafvoice. com/article. aspx?a=23694، فلنتعجل قطف الثمرة قبل فوات الأوان، دون تسرع مُخِل أو تعالم مضر.
وأيضًا لنسارع بأن ننهل من علوم مشايخنا قبل أن يفوتونا، فإن كان الموت يسبقنا للشباب فهو مع الشيوخ أسبق، وفي هذا المعنى (أدركوا بركتهم وانشروا علومهم) تجد هذا المقال https: //anasalafy. com/ar/97071.
ثم الوصية الثانية: الوصية للشباب الذين في أول طريقهم؛ استعدوا يا شباب فالدعوة والأمة في حاجة إليكم، فأعدوا العدة، وتجهزوا من الآن، وابذلوا الوسع والطاقة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، ولا يكلِّف الله نفسًا إلا ما آتاها؛ فلا بد من تعلم متين وعميق لتفاصيل المسائل في العقيدة والفكر ونحوها حتى نكون أمناء على حراسة الحدود وحماية المنهج وصفاء الراية، فتنتقل وهي بيضاء نقية جيلًا بعد جيل.
لا بد من بذل الجهد في العلم والعمل والدعوة، مع سمت طيب، وخلق حسن، ورحمة بالخلق بصدق وإخلاص.
لا يحقرن أحدُكم نفسَه، فالأيام ستمضي، ولكل مجتهد نصيب، وفي الزوايا خبايا؛ لذا كان عروة بن الزبير يقول لأولاده: "إنا كنا أصاغر قوم ثم نحن اليوم أكابر، وإنكم اليوم أصاغر قوم وستكونون كبارًا، فتعلموا العلم تسودوا به قومَكم ويحتاجون إليكم".
وأحيلكم على مقال في هذا الصدد بعنوان: (استعدوا يا شباب) http: //www. salafvoice. com/article. aspx?a=23675.
ثم الوصية الثالثة: فهي لمشايخنا ودعوتنا، بارك الله في جهودهم وعنايتهم بطلابهم، فجزاهم الله خيرًا كثيرًا، وإن كنا نحتاج للمزيد من التفقد لأحوال طلابهم وأبنائهم وكوادر دعوتهم في ظل هذه الظروف الحياتية القاسية التي قد نخسر بسببها كثيرًا من الجهود لعدد من الكوادر التي هي ثروة لدعوتنا لا تقدر بثمن.
ثم الوصية الرابعة: فهي لنا جميعًا أن نهتم بأمر الخاتمة، ونتأسى بأخينا محمدٍ في أن تكون لنا أعمال خفية ومؤثرة دون ضجيج؛ فلا ضوضاء ولا أضواء، بل علم وعمل ودعوة وإحسان للخلق، فنسأل الله من فضله ورحمته.
ثم الوصية الخامسة: فهي على ضرورة وأهمية وفضل الحب في الله والتآخي فيه، والتعاون على البر والتقوى، كما ظهر جليًّا في مرض ووفاة أخينا محمد، وأذكِّر نفسي وإخواني بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أبي مالكٍ الأشعري: أنَّهم بَينما هُم عندَ رسولِ اللهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فذكروا قَومًا لَيسوا بأنبياءَ ولا شهداءَ، يغبطُهم النَّبيونَ بمقعدِهم وقُربِهم مِن اللهِ يَومَ القيامةِ، ثمَّ قال: (هُمْ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى، وَقَبَائِلَ شَتَّى مِنْ شُعُوبِ الْقَبَائِلِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا، وَلَا دُنْيَا يَتَبَاذَلُونَ بِهَا، يَتَحَابُّونَ بِرُوحِ اللَّهِ، يَجْعَلُ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ قُدَّامَ الرَّحْمَنِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلَا يَخَافُونَ) (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان).
وختامًا: فلنكثر من الدعاء لبعضنا بعضًا؛ ندعو للحي والميت، للصغير والكبير، للأخ والشيخ، ولا يكن حظ أخينا منا دعوة على مواقع التواصل فقط، بل نتلمس مواطن وأوقات الإجابة لندعو لبعضنا بعضًا، ثم لنستكثر من الطاعة، ليعظم رجاؤنا فيه أن يجمعنا في الآخرة في جنته، فإن كل ما في الدنيا فهو إلى اضمحلال إلا ما كان لله خالصًا لوجهه، وإنما يبقى الإيمان والطاعة ومنه الحب في الله، ونية المؤمن أبلغ من عمله، وفضل الله عظيم، فاللهم اجمعنا في الدنيا على طاعتك، وفي الآخرة في جنتك ودار كرامتك.
اللهم إن محمد بن جمال في ذمتك وحبل جوارك؛ فَقِهِ من فتنة القبر، وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه، فإنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم اغفر له وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونور له فيه.
وداعًا أبا البنات.