الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة: 8).
وها هو الكيان الصهيوني يقدِّم لنا في كلِّ يوم مصداقًا عمليًّا لهذا الوصف الذي وَصَفَهم الله به، وضرب بكلِّ ما تتشدَّق به الحضارةُ الغربية مِن عدم قتل المدنيين عرض الحائط؛ فهاجم جنوده منزلًا يسكن فيه بعض مقاتلي الحركات الجهادية الفلسطينية، غير عابئين بتناثر طلقاتهم في الطرقات، وحصدها لأرواح رجال ونساء وأطفال! نسأل الله أن يتقبَّلهم عنده في الشهداء، وأن يشفي الجرحى شفاءً لا يغادر سقمًا.
إن سلوك الكيان الصهيوني يجعله أكثر حتى مِن أن يوصف بأنه دولة احتلال! فالقانون الدولي يلقي بمسئولية حماية الشعوب المحتلَة على عاتق دول الاحتلال؛ مما يجعل سلوك الكيان الصهيوني يُصَنَّف على أنه جرائم حرب؛ تذكِّرنا بجرائمهم في "بحر البقر"، و"صابرا وشاتيلا"، وغيرها من المذابح.
مع أنهم عاشوا عبر تاريخهم تحت حكم الفرس، والروم، والبابليين، والمسلمين؛ فَشُرِّدوا وقُتِلوا مع كلِّ هذه الأمم؛ إلا أمة الإسلام؛ حتى كانت القبيلة منهم تغدر وتنقض عهدها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقاتلها وحدها دون بني عمومتهم، بل لما "اضطهدهم الغربُ" في "محاكم التفتيش" لم يجدوا مَن يأويهم إلا بلاد المسلمين؛ فلما تغيَّرت الأحوال، كان ردهم لجميل أمة الإسلام أن اقتطعوا منها هذا الجزء العزيز من بلاد الشام، وفيه المسجد الأقصى "ثالث المساجد المُفَضَّلة على سائر مساجد الأرض".
وفي سبيل احتلال الأرض، والقضاء على جهاد الشعب الفلسطيني ضدهم؛ ارتكبوا -مِن قبل إعلان دولتهم في 1948، وبعد إعلانها، وإلى يومنا هذا- مجازر يَنْدَى لها الجبين!
وبالتالي كان قتال الفلسطينيين لهؤلاء جهادًا شرعيًّا مأمورًا به، كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة: 73).
وقد أمر الله -عز وجل- بالبرِّ والإقساط مع مَن يسالم المسلمين، كما قال -تعالى-: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، ولكن في كلِّ الأحوال أمرَ بالبراءة مِن كلِّ دين يخالف دين الإسلام، وأمر بمجادلتهم بالتي أحسن؛ لبيان أدلة صدق محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأنه رسول الله إلى الناس كافة، وأن مِن جملة مقاصد رسالته: بيان ما بدَّلته الأمم السابقة فيما جاءهم به أنبياؤهم، كما قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النساء: 150-151)، وقال -عز وجل-: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة: 77)، وأمر -سبحانه وتعالى- أهلَ الإسلام أن يتوسلوا إلى الله في صلاتهم أن يجنِّبهم هذا الضلال، فقال: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).
ولا شك أن مِن أهمِّ أسباب استطالة اليهود -وغيرهم- على المسلمين: جهل المسلمين، أو إعراضهم عن هذه المعاني؛ فنجد مَن يتكلَّم عن السلام مع الصهاينة، بينما هم يواصلون جرائمهم ضد إخواننا في فلسطين!
بل الأدهى من ذلك: أن هناك مَن يدعو إلى المداهنة في العقيدة، ولا شك أن تمييع العقيدة الإسلامية في غيرها، مناقضة لغرضٍ مِن أهم أغراضِ بعثةِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ الذي بُعِث ليبيِّن لأهل الكتاب ما بدَّلوه؛ قال -تعالى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (النمل: 76).
ومِن هنا نعلم بطلان دعوات: "زمالة الأديان"، وغيرها من الدعوات التي تتجاوز إطار التعايش السلمي، والإحسان مع غير المحاربين، إلى تمييع العقائد والمداهنة على حساب الدِّين! ومِن أخبث هذه الدعوات: الدعوة المُسَمَّاة: "بالدين الإبراهيمي الجديد!".
وهذه الدعوات وإن تدثَّر أصحابها بادِّعاء أنه لا سبيل للعيش في سلام إلا بهذا؛ فنقول لهم: بئس السلام سلامكم، وبئس العيش ذلك العيش الذي تُبَاع مبادئ الدِّين من أجله!
ومع هذا، فالصهاينة لا يكفون عن توجيه الطعنات إليهم؛ ففي كلِّ مرة تمر دعوة "الدين الإبراهيمي" بمنعطفٍ جديدٍ، أو يدشن لها معبدٌ جديدٌ، يتزامن هذا مع عدوان جديد، وجريمة جديدة للصهاينة!
و"الدعوة السلفية" إذ تُثَمِّن بيانات الاستنكار التي صدرتْ مِن عددٍ مِن العواصم العربية؛ إلا أنها ترى أن الأمة العربية والإسلامية أمامها الكثير من التحركات؛ لتحريك القضية في المنظمات الدولية، ولإحراج الغرب الذي يدعم تلك الدولة اللقيطة؛ لعله يضغط عليها أن تراعي الحدَّ الأدنى من قوانينهم الدولية!
و"الدعوة السلفية" إذ تؤيِّد كلَّ صور الجهاد التي تقوم بها الشعوب الإسلامية المحتلة ضد المحتلين الغاصبين؛ فإنها: تحذِّر كلَّ الفصائل الفلسطينية مِن الارتماء في أحضان إيران، أو تمرير التشيع في بلادهم؛ فإذا كانوا يجاهدون من أجل الدِّفَاع عن حُرْمَة المسجد الأقصى -وهذا ما نحمده لهم-؛ فإنه لا يعقل أن يكون الثمن هو التهاون في حرمة أمهات المؤمنين، أو الخلفاء الراشدين، أو سائر الصحابة الكرام -رضي الله عنهم أجمعين-.
ثم إن المشروع الإيراني شيعي المذهب، فارسي القومية، يتشابه إلى حدٍّ كبيرٍ مع المشروع الصهيوني، والغرب صنع الكيان الصهيوني، واستثمر الكيان الفارسي في خنق منطقتنا العربية السُّنِيَّة التي تمثِّل قاطرة قيادة العالم الإسلامي كله.
إن العَالَم العربي بصفته "قَلْب العالم الإسلامي"، بحاجة إلى أن تتوحَّد جهود دوله وشعوبه في نهضة دينية وحضارية؛ ترفض التشيُّع وشذوذاته، والتصوف وخرافاته، ودعوات زمالة الأديان ومروقها، والعالمانية وجحودها، وتبني نهضة شاملة تصل الماضي بالحاضر، وتعمِّر الدنيا في ظلِّ هداية الدِّين؛ حينها سوف تتحرر فلسطين -بإذن الله-، ويعود المسجد الأقصى إلى حضن المسلمين.
نسأل الله أن يعز أمتنا، وأن ينصر المجاهدين في كلِّ مكان، وأن يردَّ كيدَ الكائدين إلى نحورهم، وأن يكفيناهم بما شاء؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الدعوة السلفية بمصر
الخميس 3 شعبان 1444هـ
23 فبراير 2023م