الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتتقدَّم "الدعوة السلفية بمصر" بخالص العزاء للأشقاء في سوريا وتركيا في وفاة مَن توفي في الزلزال: "لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكل شيء عنده بمقدار؛ فلتصبروا ولتحتسبوا".
وقد أحسن اللهُ عزاءَ الأمة الإسلامية فيمَن يموت منها بمثل هذه الحوادث، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ) (متفق عليه).
كما ترجو الدعوة السلفية الشفاء والعافية لكلِّ المصابين، سائلين الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يشفيَ المصابين شفاءً لا يغادر سقمًا، وأن يجعل معاناتهم مِن روعة الحادث سببًا لمغفرة ذنوبهم، ورفع درجاتهم، وتأمينهم من روعة وأهوال يوم القيامة.
وتعرب الدعوة السلفية عن تقديرها لجهود الإغاثة الإسلامية من مصر، ومن بلاد الخليج، ومن غيرها، ومثل هذه الحوادث يجب أن تذكِّرنا: أن مظلة الإسلام التي تجمع جميعَ الدول الإسلامية تجعل التعاون بينها أكثر من أي تعاون آخر، بل يجب أن يوجد بينها الولاء، وشعور الجسد الواحد، كما قال -تعالى-: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92).
وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (رواه مسلم).
والفرح بوجود هذا الولاء والتعاون بين البلاد الإسلامية لا يمنعنا من توجيه الشكر لكلِّ مَن أعان أشقاءنا في سوريا، وتركيا في مصابهم.
ولنا مع هذا الزلزال الذي يُعَدُّ مِن أعنف الزلازل في تاريخ المنطقة، بل وربما في تاريخ العالم كله عِدَّة وقفاتٍ:
1- لا شك أن العِلْمَ الحديث رَصَد بعضَ الأسباب المادية لحدوث الزلازل، وكذلك رصد علم الفلك منذ زمن بعيد أسباب ظاهرتي: "الكسوف، والخسوف"، ودراسة هذا العلم مطلوب من باب معرفة سنن الله في الكون، وإذا هدى الله الإنسان لأية أسباب أو مقدمات يستطيع بها توقُّع هذه الأمور قبل أن تقع فيعد لها الأسباب؛ فكل هذا داخل في نطاق العلم النافع.
2- ولكن ما تقدَّم من معرفة تلك السنن الكونية لا ينفي أنها من خَلْق الله، وما يجري فيها هو بقَدَر الله، وأنها موضع للتدبر والـتأمل الذي يقود للإيمان بعِظَم الخالق وليس العكس، كما قال -تعالى-ـ: (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 185).
3- كما أن الأمور التي يكون فيها شيء من اضطراب نظام الكون المعتاد -ولو مؤقتًا-، يجب أن يذكرنا بأهوال يوم القيامة، فيذكرنا كسوف الشمس -وإن علمنا سببه- بزوالها يوم القيامة، وتذكرنا الزلازل بزلزلة الساعة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (الحج:1)، وقال -تعالى-: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) (الإسراء: 59).
فبيَّن الله أن الحكمة من تقدير هذه الحوادث هو تخويف العباد ليتوبوا، وهذا لا يتنافى أن الله إذا قدَّر شيئًا، قدَّر له سببه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده، كما يخوفهم بالكسوف، وغيره من الآيات والحوادث لها أسباب، وحِكَم، فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك".
4- أن الأحداث الكونية التي تقع مِن جرائها أمور مؤلمة مِن فقد أنفس أو أموال، هي بسبب ذنوب البشر، قال -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41).
ولما أجدب الصحابة وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، وقدَّم عمر -رضي الله عنه- العباس -رضي الله عنه- للدعاء وصلاة الاستسقاء، قال في دعائه: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة".
5- أن هذه الكوارث قد تكون قسطًا معجلًا من العذاب لبعض الأقوام، وقد تكون رحمة لمَن استثمرها واتعظ بها وتاب، وقد تكون رفعة لدرجات مَن تصيبهم مِن المطيعين، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) (الأنعام: 42-44).
ومِن هذه الآية نأخذ أيضًا: أن البلاءَ العام قد ينزل بقومٍ؛ بسبب ذنوبهم، وهناك مَن هو أكثر فسادًا منهم ولا ينزل بهم البلاء؛ استدراجًا لهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- يُمْلِي لِلظّالِمِ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) ثُمَّ قَرَأَ: (وكَذلكَ أخْذُ رَبِّكَ، إذا أخَذَ القُرَى وهي ظالِمَةٌ إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ) (هود: 102) (رواه مسلم).
6- أن الله يذكر هذه الأمة خاصة بهذه الآيات كلما بَعُدَت عن شرع الله وظهر فيها المنكر، فعن أم المؤمنين زينت بنت جحش -رضي الله عنها- أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) (متفق عليه).
ولذلك كان من علامات الساعة: كثرة الزلازل؛ لكثرة ما يُحْدِث الناسُ من انحرافاتٍ.
7- المؤمن دائم الفكر، يجعل كل أحداث الدنيا تذكره بالآخرة، فإذا أنعم الله عليه بشيء من نعم الدنيا المباحة تنعَّم به، ولكنه يتذكر أنه سيُسأل عنه يوم القيامة، كما تلا النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله -تعالى-: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر: 8)، بعد ما أطعمه جابر -رضي الله عنه- رطبًا وسقاه ماءً، وأما إذا أصابه بلاء؛ فبداية: ينسب السبب إلى ذنوبه، مع علمه أنه قضاء الله وقدره، كما قال -تعالى-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 165)، ثم يبادر بالتوبة كما أمر الله -تعالى-: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا).
والمؤمن في هذا يجمع بين الشكر عند النعمة والصبر عند المصيبة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ) (رواه مسلم).
8- وأما غير المكلفين من الأطفال الصغار ونحوهم، فنحن نقول: "إنا لله"، ويقول بعضنا للبعض في العزاء: "لله ما أخذ، ولله ما أعطى"، وقالت أم سليم -رضي الله عنها- لأبي طلحة -رضي الله عنه- لما توفي ابنهما: "هذا ابنُك كان عاريةً من اللهِ تعالَى، وإنَّ اللهَ قد قبضه إليه"؛ فهؤلاء الأطفال عارية مِن الله يمتحن آباءهم بفقدهم: هل يصبرون على مصابهم أم يجزعون؟
وأما الأطفال أنفسهم فهم لله، هو خالقهم، والله -عز وجل- يكرم مَن مات ولم يبلغ الحلم بدخوله الجنة، وأما آلامهم في الدنيا؛ فلا تدري ما ينزل بهم من لطف ربهم مما يعجزون عن التعبير عنه، وربما عَبَّر بعضهم، وكم رأينا مِن طفلٍ مصابٍ يعظ والديه بالصبر بعباراتٍ بليغةٍ لا تجدها إلا عند مَن جَمَع عِلْمًا وحكمة وتجربة، فسبحان اللطيف الخبير!
9- على مَرِّ التاريخ مَن مَرَّ بتجربة رأى فيها مِن تلك الأهوال، يجد قلبه يتوجَّه تلقائيًّا تجاه خالقه، ويشخص إلى السماء مناديًا ربه وخالقه، ومنهم مَن يكون في حياته ملحدًا، أو ممَّن لُقِّن أن ربَّه ليس في السماء، وهذا مِن آكد أدلة الفطرة التي أخبرنا ربنا أنه فَطَر الناس عليها، كما قال -تعالى-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30).
وهذا حدث مع غير واحد ممَّن عاش تجربة كهذه ثم أنجاه الله، وعلى الرغم من ذلك: نجد أن الملاحدة والعلمانيين يحاولون قطع الطريق على الناس من التدبر والتأمل والخوف من الله، ومِن ثَمَّ الرجوع إليه؛ بإشغال الناس بالحديث عن الأسباب المادية لهذه الأحداث -ونحن لا ننفيها كما ذكرنا-، بل ربما استنكف كثيرٌ منهم أن يقول: إن الله قَدَّر كذا، وابتلانا بكذا، فيقول: "الطبيعة!"، ثم يسنِد إليها كل التصرفات، ومِن ثَمَّ يتسخط عليها بدلًا مِن الصبر، والتوبة، والإقبال على الله؛ ولذلك جاء في الحديث القدسي: (يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ) (متفق عليه).
10- إذًا فالواجب علينا تجاه إخواننا هو الدعاء لهم، وإرسال المساعدات لهم، وفتح أبواب التبرع للمساعدات الشعبية، وفي هذا الصدد تقدِّر الدعوة السلفية إرسال مصر لطائرات إغاثية لكلٍّ مِن البلدين الشقيقين، وكذلك تقدِّر دعوة شيخ الأزهر الكريمة التي أطلقها للتبرع لهما.
11- وأما واجبنا تجاه أنفسنا: فتوبة كل فرد فيما يخصه من ذنوب، وكذلك التعاون والإنكار على المنكرات التي تشيع في المجتمعات الإسلامية.
ومنها -على سبيل المثال-:
- سب الصحابة أو انتقاصهم، وهذا ينشره الشيعة في حقِّ: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة -رضي الله عنهم أجمعين-، وهؤلاء الصحابة يكاد ينفرد بسبهم الشيعة، ولكن قد يوافقهم بعض الجهال في سبِّ صحابة أخيار آخرين: كعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وغيرهم من أفاضل الصحابة -رضي الله عنهم-.
- منكرات الترويج للفواحش مِن: الشذوذ والزنا، واعتبار أن هذه المنكرات المقطوع بحرمتها في دين الإسلام نوع من الحرية الشخصية!
- شيوع الربا وبناء الاقتصاد عليه، دون اتخاذ خطوات جادة للخروج من الحصار العالمي الذي يربط اقتصادنا باقتصادياته الربوية.
- انحراف كثير من الرجال في فهم معنى القوامة، ومقابلة هذا الانحراف بانحراف آخر مِن تثوير النساء على الرجال من خلال معظم وسائل الاعلام بدلًا من ردِّ الجميع الى المودة والرحمة الشرعيتين.
- انتشار المخدرات.
- انتشار الفحش في القول في الدراما والغناء، والشارع والمدرسة والجامعة، حتى وكأن قاموسنا صار قاموس البذاءة والشتم.
- انتشار ظواهر الاحتكار والإثراء على حساب المجتمع واستغلال الأزمات.
وغيرها كثير تحتاج منا إلى الاستجابة لنداء الحق -تبارك وتعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31).
نسأل الله أن يقي مصر وسائر بلاد المسلمين شرَّ الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
الدعوة السلفية بمصر
الخميس 18 رجب 1444هـ
9 فبراير 2023م