الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 27 ديسمبر 2022 - 3 جمادى الثانية 1444هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (97) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (1)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله تعالى: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).

إن الدعوة إلى الله، وتوحيده وعبادته، والبراءة مِن كلِّ ما يُعبَد مِن دونه هي تكميل واجب لعقيدة المؤمن؛ طالما قدر على شيء من هذه الدعوة، كما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (‌قُلْ ‌هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، وهذا المعنى العظيم قد وضَّحه وبيَّنه كلُّ الأنبياء صلوات الله وسلامهم عليهم؛ ليكونوا قدوة للمؤمنين عبر الزمان في دعوتهم وقيامهم بهذه المهمة العظيمة؛ التي بها يحافظون على أنفسهم ودينهم وهويتهم مما يُرَاد بها مِن تلبيس وطمس وتغيير؛ يريده الشيطان وأتباعه، كما توعَّد بني آدم فقال: (‌وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: 119).

وأشد هذا التغيير: تغيير الملة من الحنيفية إلى اليهودية، أو النصرانية، أو المجوسية، أو إلى ما هو أسوأ من ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (‌كُلُّ ‌مَوْلُودٍ ‌يُولَدُ ‌عَلَى ‌الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ) (متفق عليه)، وفي رواية: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى ‌هَذِهِ ‌الْمِلَّةِ... ) (رواه مسلم).

وقد قام إبراهيم صلى الله عليه وسلم بهذا الواجب في جميع مراحل حياته، وفي كلِّ مكان نَزَل به؛ فمنذ كان فتى شابًا؛ دعا أباه وقومَه إلى الله وحده، وعبادته، وأظهر البراءة مِن ضلالهم وشركهم، وعبادتهم غير الله، ثم لما ذهب إلى مصر دعا إلى الله عز وجل، ولما ذهب إلى الشام وأقام بها في القدس دعا إلى الله عز وجل، ونشَّأ أولاده وأحفاده وأهله على توحيد الله سبحانه وتعالى.

ولما أمره الله عز وجل أن يعمِّرَ مكة، عمَّرها على توحيد الله سبحانه وتعالى والبراءة من الشرك، وبنى بيته الحرام على ذلك، ووَرَّث أبناءه هذا الإسلام الذي جدَّده الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكمله الله عز وجل لنا وارتضاه لنا دينًا، فاللهم لك الحمد كما تقول وخيرًا مما نقول، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

وإلى تفسير الآيات ثم فوائدها.

قال ابن كثير رحمه الله: "قال الضحاك عن ابن عباس: إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر، وإنما كان اسمه تارح. رواه ابن أبي حاتم. (قلتُ: هذا أثر ضعيف منقطع؛ فإن الضحاك لم يلقَ ابن عباس). وروى بسنده عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) يعني بآزر: الصنم، وأبو إبراهيم اسمه: تارح، وأمه اسمها: مَثَانِي، وامرأته: اسمها سارة، وأم إسماعيل اسمها: هاجر، وهي سرية إبراهيم. وهكذا قال غير واحد من علماء النَّسَب: إن اسمه تارح. وقال مجاهد والسدي: آزر اسم صنم. قلت: كأنه غلب عليه آزر؛ لخدمته ذلك الصنم، فالله أعلم.

وقال ابن جرير: وقال آخرون: هو سب وعيب بكلامهم، ومعناه: معوج" ولم يسنده ولا حكاه عن أحدٍ.

وقد قال ابن أبي حاتم: ذُكِر عن معتمر بن سليمان، سمعتُ أبي يقرأ: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) قال: بلغني أنها أعوج، وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم -عليه السلام-.

ثم قال ابن جرير: والصواب أن اسم أبيه آزر. ثم أورد على نفسه قول النَّسَّابين أن اسمه تارح، ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان كما لكثيرٍ مِن الناس، أو يكون أحدهما لقبًا، وهذا الذي قاله جيد قوي، والله أعلم. (قلتُ: ونحن لا يلزمنا قول النَّسَّابين الذين لا يعتمدون على أسانيد بينهم وبين زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وإنما هي حكايات أخذوها عن أهل الكتاب الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما لم يَرِد فيه عندنا عِلْم من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس منه؛ لأن الكتاب قد نَصَّ على أن إبراهيم قد كَلَّم أباه آزر في المواضع المختلفة، فيجب التسليم لذلك، وعدم معارضته بقول النَّسَّابين).

واختلف القراء في أداء قوله تعالى: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) فحكى ابن جرير عن الحسن البصري وأبي يزيد المدني، أنهما كانا يقرآن: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرُ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) معناه: يا آزرُ، أتتخذ أصنامًا آلهة؟!

وقرأ الجمهور بالفتح؛ إما على أنه عَلَم أعجمي لا ينصرف، وهو بدل من قوله: (لِأَبِيهِ) أو عطف بيان، وهو أشبه. وعلى قول مَن جعله نعتًا لا ينصرف أيضًا: كأحمر وأسود؛ فأما مَن زعم أنه منصوب؛ لكونه معمولًا لقوله: (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا) تقديره: يا أبت، أتتخذ آزر أصنامًا آلهة؛ فإنه قول بعيد في اللغة، فإن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله؛ لأن له صدر الكلام، كذا قرَّره ابن جرير وغيره. وهو مشهور في قواعد العربية.

والمقصود: أن إبراهيم عليه السلام وَعَظ أباه في عبادة الأصنام وزجره عنها، ونهاه فلم ينتهِ، كما قال: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) أي: أتتأله لصنمٍ تعبده من دون الله؟! (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ) أي: السالكين مسلكك (فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: تائهين لا يهتدون أين يسلكون، بل في حيرة وجهل، وأمركم في الجهالة والضلال بيِّنٌ واضحٌ لكلِّ ذي عقلٍ سليمٍ.

وقال تعالى: (‌وَاذْكُرْ ‌فِي ‌الْكِتَابِ ‌إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (مريم: 41-48)، فكان إبراهيم عليه السلام، يستغفر لأبيه مدة حياته، فلما مات على الشرك وتبيَّن إبراهيم ذلك؛ رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه، كما قال تعالى: (‌وَمَا ‌كَانَ ‌اسْتِغْفَارُ ‌إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 114).

وثبت في الصحيح: أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم (يَلْقَى أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي، فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ؛ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى ‌مِنْ ‌أَبِي ‌الْأَبْعَدِ؟! فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ -ضبع- مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ) (رواه البخاري)" (انتهى من تفسير ابن كثير بتصرفٍ يسيرٍ).

وللحديث بقية إن شاء الله.