الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 25 أكتوبر 2022 - 29 ربيع الأول 1444هـ

نقاش هادئ (2)

كتبه/ سامح بسيوني

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فنلاحظ في الأوقات الحالية مِن كثيرٍ ممَّن يتعصب للمذهبية؛ محاولاته التهوين من أمر الاحتفال بالمولد بقوله: "يعتبر الأمر خلافًا سائغًا معتبرًا بين الفقهاء، ويقرر: أن مَن قلَّد قولًا معتبرًا في المسألة لم يجز له الإنكار على غيره ممَّن قلَّد قولًا آخر، وأن الاحتفال الذي يسوغ فيه الخلاف هو ما كان خاليًا من المحرمات: كالمعازف، والاختلاط، والغلو البدعي الشركي في النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك، ولكن فقط تخصيص اليوم بالكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر شمائله، والإنشاد المقبول شرعًا مِن مدحه صلى الله عليه وسلم، وإدخال السرور على النفس والأهل، والتوسعة عليهم بالحلوى، ونحو ذلك، والأقرب عنده أن تحريم هذا بعيد!".

والجواب عن هذا الكلام  يكون من وجوه عِدَّة:

أولًا: هناك فرق بين ما يسوغ فيه الخلاف، وما لا يسوغ فيه الخلاف؛ فالخلاف السائغ: هو الذي لم يخالف البينات (وهي نص من كتاب أو سنة صحيحة، أو إجماع قديم، أو قياس جلي).

والخلاف غير السائغ: هو الذي خالف البينات (وهي النص من كتاب أو سنة صحيحة، أو إجماع قديم، أو قياس جلي)؛ قال الله تعالى: "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم"؛ فليس كل خلاف لا يشرع فيه الإنكار، بل الخلاف غير السائغ الذي خالف البينات، يجب فيه الإنكار؛ لأن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وكما قيل: 

ليس كل خلاف جاء معتبرًا               إلا خلافًا له حظ من النظر

- والأمثلة من الصحابة على الإنكار في مسائل الخلاف كثيرة، منها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تمتع النبي صلى الله عليه وسلم (أي: في الحج)، فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون! أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون نهى أبو بكر وعمر!".

وقالت عائشة رضي الله عنه: "أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب"؛ أي: من القول بجواز بيع العينة.

وقال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: "إن ناسًا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة (يعني ابن عباس رضي الله عنهما في فتواه بجواز نكاح المتعة)، فناداه ابن عباس فقال له: إنك لجلف جاف، فقال له ابن الزبير: جرب بنفسك، فوالله لو فعلت لأرجمنك بأحجارك".

ثانيًا: هل الخلاف في الاحتفال بالمولد بهذه الصورة المذكورة في الفتوى، من الخلاف السائغ أم من الخلاف غير السائغ؟

 بالتأكيد هو من الخلاف غير السائغ؛ لماذا؟! 

لأن هذا مخالف لإجماع الصحابة، والقرون الثلاثة الخيرية الأولى؛ فلم يكن معروفًا ولا معمولًا به في القرون الثلاثة الفاضلة، وأول مَن أحدثه العبيديون المسمون بالفاطميين، ومعلوم مكانتهم من التشيع والزندقة، ونبذ الكتاب والسنة، ومحادتهم للإسلام وأهله والكيد له، وهذا يكفي في بطلانه، والدليل على نكارته، وعدم مشروعيته.

قال الإمام السخاوي رحمه الله: "عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحدٍ من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعد".

وقال الإمام تاج الدين الفاكهاني المالكي رحمه الله: "لا أعلم لهذا المولد أصلًا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحدٍ من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدِّين -كالأئمة الأربعة ونحوهم- المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة، أحدثها البطَّالون، وشهوة نفسٍ اعتنى بها الأكَّالون؛ بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا، أو مكروهًا، أو محرمًا! وهو ليس بواجب إجماعًا، ولا مندوبًا؛ لأن حقيقة المندوب: ما طلبه الشرع مِن غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشارع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون -فيما علمت-، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت. ولا جائز أن يكون مباحًا؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحًا بإجماع المسلمين، فلم يبقَ؛ إلا أن يكون مكروهًا، أو محرمًا".

ونقل السيوطي عن الحافظ ابن حجر قال: "وقد سُئِل شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر عن عمل المولد، فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة" (الحاوي للسيوطي).

وقال ابن الحاج المالكي: "ومن جملة ما أحدثوه من البدع، مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات وأظهر الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد... " إلى أن قال: "وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع؛ فإن خلا منه -وأنى يخلو منه؟!- وعمل طعامًا فقط ونوى به المولد، ودعا إليه الإخوان، وسلم مِن كل ما تقدم ذكره من الضرب بالطبول، والرقص والتواجد، والاختلاط؛ فهو بدعة بنفس نيته فقط؛ إذ أن ذلك زيادة في الدين، وليس من عمل السلف الماضين... ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع، فيسعنا ما يسعهم" (المدخل لابن الحاج المالكي).

فتبيَّن أن هذا الاحتفال مخالف لإجماع الصحابة، والقرون الثلاثة الأولى؛ هذا فضلًا عن النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة التي تحذر من الابتداع في الدِّين، والتي تبيِّن أن الأصل في العبادات المنع والتوقف حتى يرد الدليل على الفعل. 

وللحديث بقية إن شاء الله.