الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 21 سبتمبر 2022 - 25 صفر 1444هـ

حرب العاشر من رمضان كأنك تراها (3)

يوم العاشر من رمضان (3)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فبعد مضي نصف قرن هجري من الزمان على حرب العاشر من رمضان 1393 إلى رمضان 1443 هـ - السادس من أكتوبر، رَحَل -أو يكاد- مَن حضروا هذه الحرب أو عاصروها؛ فلزم علينا أن نذكِّر الأجيال الجديدة بهذه الحرب المجيدة، وما قدَّم المصريون فيها من تضحيات وما بذلوه من جدٍّ واجتهاد في قوة تحمُّل وصبر، وإخلاص وصدق حقَّقوا به مجدًا كبيرًا في ظروف أسوأ وأصعب بكثيرٍ مِن الظروف التي نعاني منها حاليًا؛ إنها روح العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر التي نفتقدها الآن، ونحن أحوج ما نكون إليها.  

كيف مَرَّ يوم العاشر من رمضان السادس من أكتوبر على إسرائيل وجيشها في سيناء؟

تبدأ الأحداث المتعلقة بهذا اليوم قبله بأيام:

- في يوم الأربعاء السابع من رمضان - الرابع من أكتوبر: كانت قد تراكمت المعلومات في إسرائيل حول وجود استعدادات على الجبهتين: المصرية والسورية، حيث قام مدير المخابرات باطلاع وزير الدفاع ورئيس الأركان على تقديره للموقف؛ إذ تم رصد تشكيل طوارئ في سوريا من خلال وجود: 5 فرق، و5 ألوية مشاة، ولواءين مدرعين، وأن هناك مناورة عسكرية تدور في مصر تثير قلقًا حول استعداد مصر للهجوم على إسرائيل؛ وعليه عُقِد في نفس اليوم اجتماع مجلس حرب برئاسة جولدا مائير بعد عودتها من النمسا لمناقشة الموقف، فتم استبعاد قيام أي حرب، حيث ذكر موشى دايان أن المصريين لو عبروا القناة وتقدموا لأي مسافة في سيناء، فيمكن بضربة واحدة جعلهم في موقفٍ أصعب مما هم فيه حيث تحميهم القناة.

- يوم الخميس الثامن من رمضان: تلقَّى مدير المخابرات الإسرائيلي معلومات مصدرها عميل موثوق به في لندن بأن هناك معلومات غاية في الأهمية رصدتها طائرة استطلاع تؤكِّد وجود حشود على الجبهة المصرية خاصة المدفعية؛ فاجتمع دايان برئيس الأركان وأعضاء القيادة العامة لاستعراض تقارير الموساد، ودراسة كل التوقعات، كما اجتمع مجلس الحرب برئاسة جولدا مائير في الحادية عشرة والنصف صباحًا بعد زيادة الشك في إمكانية اندلاع الحرب، حيث ذكر موشى دايان: أن احتمالات قيام مصر وسوريا بالحرب كبيرة جدًّا.

فتم إعطاء سلطة التعبئة العامة لرئيسة الوزراء، ووزير الدفاع، دون حاجة لاجتماع مجلس الحرب، على أن يترك أعضاء مجلس الحرب أرقام تليفوناتهم في المناطق التي سيقضون فيها عيد الغفران، وفي المساء استدعت رئيسة الوزراء الجنرال اليعازر بصفته عسكريًّا محترفًا، وسألته: هل يستطيع المصريون العبور؟ فأخبرها أن الجنرال بارليف أخبره صباحًا باستحالة ذلك، وأنه جَهَّز القناة بوسائل حرق كل مَن يقترب منها، وهو ما أكَّده الجنرال حاييم بارليف لمائير صباح اليوم التالي.  

وأضاف اليعازر: إن عبورَ المصريين فيه استحالة، وأنه قد تم وضع حسابات ما لو حدث ذلك، وأن المصريين متدينون بطبعتهم؛ فكيف يقاتلون في رمضان؟! والأهم من ذلك: أن الحالة على الضفة الغربية للقناة هادئة.

- في التاسعة صباح الجمعة التاسع من رمضان - الخامس من أكتوبر، عقد موشى دايان وزير الدفاع اجتماعًا في مكتبه، حضره رئيس الأركان وأعضاء القيادة العامة، حيث قدَّم اليعازر رئيس الأركان تقريرًا أوضح فيه أن الحشود المصرية على الجبهة راجعة في الغالب إلى شدة أعصاب المصريين نتيجة الخشية من إسرائيل؛ لذا يعززون قواتهم أو أن لديهم نوايا عدوانية.

وحول رصد ترحيل عائلات المستشارين الروس في سوريا والمدنيين الروس في مصر الذي أثار بشدة شكوك المخابرات الإسرائيلية، فذكر التقرير: أنه قد يكون نوعًا من التعبير عن غضب الروس من التصرفات المصرية، أو أن هناك خلافًا سياسيًّا بين الروس والسوريين، فأضاف دايان: أنه ربما يكون خوَّف روسيا من حرب قادمة مع إسرائيل، وقرر رئيس الأركان في نهاية الاجتماع إلغاء الإجازات على الجبهتين: المصرية والسورية، وإعلان حالة الطوارئ في سلاح الطيران.

- كان رئيس الموساد قد سافر بنفسه إلى لندن لمقابلة عميل المخابرات هناك الذي كان لديه معلومات بالغة الأهمية، وتمت مقابلته في العاشرة مساء الجمعة التاسع من رمضان - الخامس من أكتوبر، حيث حصل رئيس الموساد على المعلومات المطلوبة، وقام فريق تحليل الصور الجوية بدراسة صور الاستطلاع الجوي الذي تم في نفس اليوم وثبت منها وجود حشود مصرية على الجبهة.

- في الثالثة فجر السبت العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر، تلقَّى مدير المخابرات الإسرائيلية مكالمة تليفونية من رئيس الموساد ليبلغه بمعلوماتٍ تفيد بأن مصر وسوريا سيشنان هجومًا على إسرائيل قبل غروب شمس هذا اليوم.

- اجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي في الساعة الثامنة صباحًا - يوم العاشر من رمضان السادس من أكتوبر، وانتهى الاجتماع إلى اتخاذ أربعة قرارات:     

الأول: تعبئة ما بين 100 إلى 120 ألفا من الاحتياطي تضاف إلى الجيش النظامي وكان الطيران في حالة طوارئ من قبل.

الثاني: إخلاء النساء والأطفال من الجولان.

الثالث: النظر في اقتراح رئيس الأركان بتوجيه ضربة وقائية ضد سوريا، وهو ما اعترض عليه وزير الدفاع؛ لأن الضربة موجهة لسوريا فقط، وأنها تستهدف القواعد الجوية فقط دون الدفاع الجوي، وبالتالي لا فائدة حقيقية منها.

الرابع: توجيه تحذير لمصر وسوريا عن طريق أمريكا من مغبة الهجوم على إسرائيل.

كان أحد مخاوف المسئولين في إسرائيل من القيام بضربة استباقية، أن تظهر إسرائيل على أنها البادئة بالحرب مما قد يجعلها تفقد التعاطف معها حال احتياجها أثناء الحرب إلى أي معاونة من أصدقائها في الغرب، بينما توجيه تحذير لمصر وسوريا عن طريق أمريكا يضمن وقوف أمريكا إلى جانب إسرائيل إن بدأت مصر وسوريا الحرب. 

وقد استدعت مائير بالفعل السفير الأمريكي في إسرائيل لنقل رسالة للبيت الأبيض عن نوايا مصر وسوريا في توجيه ضربة ضد إسرائيل، وأن إسرائيل ليس لديها نوايا عدوانية تجاههما، كما طلبت مائير أيضًا من وزير خارجيتها أبا إيبان الموجود وقتها في نيويورك بإبلاغ نفس الرسالة إلى المسئولين الأمريكيين لنقلها إلى السادات عن طريق الروس، وهو ما تم بالفعل.

وقد قام كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية -وقتها- بالفعل بالاتصال بوزير الخارجية المصرية الموجود أيضًا وقتها في نيويورك، طالبًا منه ألا تقدم مصر وسوريا على الهجوم، لكن اتصاله كان متأخرًا في الساعة الثانية إلا ربع ظهرًا بتوقيت القاهرة، أي: قبل ساعة الصفر بربع ساعة فقط.

العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر في مذكرات جولدا مائير:

تقول جولدا في مذكراتها عن يوم العاشر من رمضان: (لا بد أن أعود بالذاكرة أولًا إلى شهر مايو -تعني مايو عام 1973- عندما وصلتنا معلومات عن تعزيز القوات المصرية والسورية على الحدود، ولم يرَ رجال مخابراتنا أن الحرب قد تندلع، لكننا مع ذلك قررنا معالجة الموقف بجدية، وذهبت بنفسي آنئذٍ إلى مقر القيادة العامة حيث التقيت بوزير الدفاع ورئيس الأركان، واستعرضت معهما درجة استعداد القوات المسلحة، واقتنعت بأن الجيش مستعد لكافة الطوارئ بما في ذلك الحرب الشاملة).

وتقول: (وبدأنا في شهر سبتمبر نتلقى معلومات عن احتشاد القوات السورية في مرتفعات الجولان، وفي اليوم الثالث عشر من هذا الشهر وقعت معركة جوية تم فيها إسقاط 13 طائرة سورية من طراز ميج، ورغم ذلك أكد لنا رجال المخابرات أنه ليس من المتوقع أن يقوم السوريون بردِّ فعلٍ كبيرٍ).

وتذكر جولدا أنها في يوم الأربعاء الثالث من أكتوبر عقدت اجتماعًا مع قادة الجيش والمخابرات حول الموقف العسكري، وكان الترجيح أن التحركات المصرية مناورات تجري في مثل هذا الوقت من العام، وأن سوريا لن تهاجم إسرائيل بمفردها، وأن نقل الوحدات السورية من على الحدود الأردنية هو نوع من الوفاق بين الدولتين، وإظهار حسن النية من سوريا تجاه الأردن.

وقالت: (وتلقينا يوم الجمعة 5 أكتوبر تقريرًا أثار قلقي: أن عائلات المستشارين الروس في سوريا تحزم أمتعتها وترحل في عجل).

وأضافت: (وسألت وزير الدفاع ورئيس الأركان ورئيس المخابرات عما إذا كانت هذه المعلومة تعتبر مهمة... فوجدت أنها لم تغير من تقديرهم للموقف)، (وتلقيت تأكيدًا بأن لدينا إنذارًا كافيًا لأي متاعب... كما أن تعزيزات قد تم إرسالها إلى الجبهات لصدِّ أية عملية عند اللزوم... وقد تم اتخاذ اللازم، فوضع الجيش في أقصى حالات التأهب؛ خاصة الطيران، والمدرعات).

ثم تذكر جولدا: أنها عقدت اجتماعًا طارئًا للحكومة، حضره رئيس الأركان ورئيس المخابرات يوم الجمعة 5 أكتوبر لاستعراض التقارير، ولم يبدُ الانزعاج على أحدٍ، وانفض الاجتماع وهي ما زالت تفكر في خطر الحرب، في حين أن رئيس الأركان الحالي والسابق ورئيس المخابرات، والمصادر الأجنبية التي هي على اتصال مستمر معها يقطعون بأن احتمال الحرب بعيدٌ.

وتلوم جولدا نفسها فتقول: (أما اليوم؛ فإنني أعلم ما الذي كان ينبغي عليَّ أن أفعله؛ كان يجب أن أتغلب على ترددي، لقد كنت أعلم كغيري ما الذي تعنيه التعبئة العامة ومقدار الأموال التي تتكلفها؟ وكنت أعلم أيضًا أننا منذ عدة أشهر في مايو تلقينا إنذارًا، وقمنا باستدعاء الاحتياطي ولم يحدث شيء، لكنني فهمت أن الحرب ربما لم تقع في مايو لنفس هذا السبب، وهو أننا استدعينا الاحتياطي. كان يجب عليَّ في صباح يوم الجمعة هذا أن استمع إلى إنذار قلبي واستدعي الاحتياطي وآمر بالتعبئة. إن هذه حقيقة بالنسبة لي لا يمكن أن تنمحي، وليس هناك عزاء فيما قد يقوله أحد أو في كل التهدئة والتحجج بالعقل الذي حاول زملائي تهدئتي به).

وأضافت: (وليست المسألة شعورًا بالذنب، إنني أنا أيضًا أستطيع أن أحتكم إلى العقل وأقول لنفسي: إن مواجهة مثل هذا اليقين مِن جانب مخابراتنا العسكرية، والقبول الكلي بقدرٍ مساوٍ لتقديراتها من جانب أبرز رجالنا العسكريين... فإن إصراري على الأمر بالتعبئة كان سيبدو أمرًا غير مقبول! لكني أعلم أنه كان عليَّ أن أفعل ذلك، وسوف أحيا بهذا الحلم المفزع بقية حياتي، ولن أعود مرة أخرى نفس الشخص الذي كنته قبل حرب كيبور).

تذكر جولدا أنه في الرابعة من صباح يوم السبت 6 أكتوبر أُخبِرت تليفونيًّا بأن معلومات من مخابرات موثوقة تفيد بأن المصريين والسوريين سوف يشنون هجومًا مشتركًا في وقتٍ متأخرٍ من بعد ظهر اليوم، فعقدت جولدا اجتماعًا مع رجالها العسكريين، فأوصى رئيس الأركان بتعبئة كل سلاح الطيران، وأربع فرق، وأنه إذا تم الاستدعاء فورًا، فسيكون بإمكان هذه القوات أن تتحرك وتعمل في صباح اليوم التالي، وكان من رأيه البدء بضربة جوية إجهاضية ما دام أن الحرب قد باتت واضحة، وأن سلاح الطيران يمكن أن يكون جاهزًا للضربة الوقائية عند الظهر حال الأمر بذلك.

أما موشى دايان: فكان يحبِّذ تعبئة سلاح الطيران، واستدعاء فرقتين فقط؛ بدعوى أن التعبئة العامة قبل إطلاق رصاصة واحدة على إسرائيل أو قيام إسرائيل بضربة إجهاضية قد تكون سببًا في اتهام إسرائيل ببدء العدوان؛ خاصة وأنه يمكن معالجة الموقف بسلاح الطيران وفرقتين، فإذا ساء الموقف يمكن استدعاء المزيد خلال ساعات.

ورأت جولدا أن القيام بضربة وقائية قد يمنع إسرائيل من الحصول على مساعدة إن احتاجت إليها في المستقبل. وأبلغت جولدا السفير الأمريكي وقتها بتقارير المخابرات بأن الهجوم سيكون في ساعة متأخرة من اليوم، وأن إسرائيل لن تبدأ بالضربة الأولى على أمل أن تتدخل أمريكا أو روسيا مع المصريين والسوريين لمنع وقوع الحرب.

وعن مفاجأة حكومتها بالحرب تذكر جولدا: إن الحكومة الإسرائيلية استمعت في اجتماعها ظهرًا إلى وصف كامل للموقف، وبينما هم مجتمعون، جاء الخبر بأن الضرب بدأ، وسمع في نفس اللحظة تقريبًا صوت صفارات الإنذار في تل أبيب، وبدأت الحرب. وكانت الصدمة... لم يتم الإنذار في وقت مناسب، والضرب على جبهتين، والعدو متفوق من الناحية العددية في السلاح والرجال، وثبت خطأ افتراضات الحكومة وقادة الجيش، ولم يكن ممكنًا أن تكون الظروف أسوأ مما هي عليه. وظلت الاجتماعات مستمرة في مكتب جولدا وغرفة الحرب طوال النهار والليل، تتخللها مكالمات تليفونية من واشنطن، وأنباء سيئة من الجبهات.

قالت جولدا: (لكننا حتى في أحلك الأيام تلك التي عرفنا فيها مدى الخسائر التي لحقت بنا، لن نفقد إيماننا بجنود جيش الدفاع الإسرائيلي).

وأضافت: (ولا أظنني سوف أنسى ذلك اليوم الذي سمعتُ فيه أسوأ التنبؤات المتشائمة).

العاشر من رمضان في مذكرات موشى دايان:

يذكر دايان في مذكراته عن يوم العاشر من رمضان: أنه قد وصلته معلومات تحليلية من المخابرات ليلًا قرب صباح يوم الغفران (يوم كيبور)، وهو من أهم الأعياد الدينية عند اليهود -الذي وافق في هذا العام يوم السبت السادس من أكتوبر1973- عن إعداد مصر وسوريا لهجوم قبل غروب شمس نفس اليوم، فأبلغها جولدا مائير، واجتمع بقادة الجيش في مكتبه صباحًا، ونظرا لأن مثل هذه المعلومات عن هجوم متوقع سبق أن تلقاها من قبل ولم يعقبها هجوم، ولكن في ضوء تقارير المخابرات عن عملية لإجلاء الأسر السوفيتية من سوريا تعيَّن التصرُّف على أساس افتراض شن الحرب، فتم بحث تعبئة الاحتياطي لدعم الجبهات و لإعداد لضربة جوية وقائية رادعة للقواعد الجوية في عمق سوريا قبل الساعة الثانية عشر ظهرًا، وإجلاء النساء والأطفال من المستوطنات في هضبة الجولان، وإصدار تحذير لمصر وسوريا عن طريق أمريكا لضمان وقوف أمريكا إلى جانب إسرائيل حال نشوب حرب ليست إسرائيل السبب فيها.

وذكر دايان: أنه عارض فكرة الضربة الجوية الوقائية؛ خشية أن تفسدَ العون المأمول من أمريكا حال وقوع الحرب، وبعد مناقشة مع رئيسة الوزراء تقرر تعبئة الاحتياطي وإجلاء النساء والأطفال من الجولان، وصرف النظر عن الضربة الجوية مع إنذار مصر وسوريا.

ثم يذكر دايان: أنه توجَّه إلى حجرة العمليات في الحادية عشر صباحًا، وكان كل شيء هادئًا، وكان المتوقع حال وقوع الهجوم أن يحاول المصريون عبور القناة من مناطق معينة في زوارق مطاطية وتلحق بهم قوات من الصاعقة محمولة بالهليكوبتر لإقامة رؤوس جسور، ومحاولة الاستيلاء على -أو تخريب- حقول البترول في أبي رديس، والاستيلاء على شرم الشيخ للتحكم في مدخل خليج العقبة.

وكان وقوع الهجوم ليلًا -كما توقعته المعلومات المخابراتية- يحول بين الطائرات والتصدي للعبور لحين عمل القوات الجوية في الصباح التالي. وقد بدأت أعمال التعبئة، ولكنها كانت تحتاج من 24 - 48 ساعة لاستكمالها، وكان الشعور بالثقة سائدًا، ولكن كان وجه القلق مناقضة الأمر لطبيعة الجيش الإسرائيلي في عدم بدئه بخوض الحرب كما اعتاد، وبالتالي عدم التعبئة لها قبل البدء فيها.

وفي اجتماع عاجل لمجلس الوزراء في تل أبيب، وافقت الحكومة على ما اتخذ من قرارات، ومنها طلب توضيح من مصر وسوريا عن الوضع عن طريق أمريكا، وفي الساعة الثانية وخمس دقائق ظهرًا تم استدعاء دايان إلى غرفة العمليات؛ إذ تعرضت القوات الإسرائيلية للهجوم، وبدأت الحرب.

أحداث اليوم الأول للقتال:

يذكر دايان أن اليوم الأول للقتال كان شاقًّا، فقدت فيه إسرائيل الكثير من الرجال والأراضي، ولكن تقرير رئيس الأركان في العاشرة مساء كان يتسم بالتفاؤل؛ إذ كان المتوقع أن تفوق مصر وسوريا لن يستمر، فبمجرد وصول قوات الاحتياط إلى الجبهات ستستعيد إسرائيل ميزان القوى وعنصر المبادرة، ورغم كثرة المصريين الذين عبروا إلى الضفة الشرقية من عِدَّة نقاط، ورغم الاستيلاء على أحد المواقع الحصينة، ورغم الأعداد الكبيرة من الأسلحة المضادة للدروع التي نقلوها والصواريخ السوفيتية التي يستخدمها الأفراد والتي تجعل الموقف ليس مرضيًا؛ خاصة وأن التعزيزات القوية لن تصل هناك إلا بعد يومين، أي: في صباح يوم 8 أكتوبر، فإن الوضع وَفْقًا لرأي رئيس الأركان قابل للاحتواء.

وطبقًا لهذه الظروف تم تغيير الخطة لمساعدة القيادة الجنوبية بضرب الجبهة المصرية بالطائرات بدلًا من ضرب الجبهة السورية، قال دايان: (وأحسست بالقلق يملأ قلبي إذ لم أشارك رئيس الأركان وقائد القيادة الجنوبية تفاؤلهما. لقد حقق المصريون مكاسب هائلة، وتعرَّضنا لضربة موجعة، فقد عبر إلى المصريون وأقاموا جسورًا نقلوا عليها المدرعات والمشاة، ولم نكن قد فشلنا فقط في منعهم، بل لم نسبب لهم إلا خسائر طفيفة في الأفراد والمعدات).

وأضاف: (ولم تعد مواقعنا الحصينة إلا فخاخًا للموجودين بها إن لم نستطع رد المصريين إلى الضفة الغربية).

وفي العاشرة من مساء أول يوم تم عقد اجتماع للوزارة للاطلاع على مجريات الأمور، وقدَّم رئيس الأركان تقريره؛ يقول دايان: (لكني طلبت الحديث لكي أطلع الوزراء على الموقف بكلِّ قسوته وتقييمي لما قدَّمه رئيس الأركان، وقلتُ: إننا نواجه ثلاثة عوامل بالغة الصعوبة:

أولها: حجم قوات العدو المجهزة بأسلحة تراكمت عبر السنوات الست الماضية، فالجيشان المصري والسوري ليسا الجيشين اللذين عرفناهما عام 1967، بل هي قوات جيدة تم تجهيزها ويملأها التصميم والإصرار.

وثانيهما: هو سلاح الصواريخ بعد تدعيمه بالصواريخ سام 6، وإن لم تستطع قواتنا الجوية قهر هذا السلاح، فلن يمكنها مد يد العون لدباباتنا وتدمير مدرعات العدو).

ويذكر دايان: أنه كان قلقًا ومرهقًا، ويشعر أن زملاءه في الوزارة لم يعجبهم ما ذكره عن نجاح المصريين، ويريدون أن يرد المصريين عبر القناة فورًا؛ إذ كانت تسيطر عليهم روح التفاؤل التي أبداها رئيس الأركان. وفي منتصف الليل تم إبلاغ ممثل إسرائيل في الولايات المتحدة بأنه في غضون أيام سوف يتم طرد المصريين، وأن الموقف رغم النجاح المرحلي للعدو يدعو للرضا.

ويذكر دايان: أنه توجَّه في نفس الليلة بعد اجتماع مجلس الوزراء إلى القيادة العامة الخاصة بالطوارئ، فكان كل هم قادة الجبهات: الدفاع عن خطوطهم ومنع اختراقها إلى أن تصلهم الإمدادات، ثم توجَّه إلى غرفة عمليات الطيران حيث أشار بالحاجة إلى منع الطيران الإسرائيلي لتقدم القوات المصرية قبل إدخالها لقوات مدرعة كبيرة إلى سيناء إلى جانب إسكات بطاريات الصواريخ، وضرب المعابر.

ويذكر دايان: أن خط بارليف -وهو خط الاستحكام الأول- به 16 من الاستحكامات القوية على القناة مباشرة، وهي عبارة عن نقاط أمامية صغيرة لكل نقطة من 20 - 30 جنديًّا، وتبعد عن الأخرى نحو 5 أميال، وقد تعرضت كلها لقصف شديد ومركز ثم هجوم شامل، فكانت كل نقطة تحارب مستقلة وكأنها جزيرة منعزلة.

ويذكر: أنه رغم عبور المصريين للقناة فلم تسقط أي نقطة خلال الأربع والعشرين ساعة الأولى حتى التي نجح المصريون في التسلل إليها عند بدء المعركة، كما لم تنجح أي نقطة في إيقاف تقدم المصريين في قطاعها، وقد نجحت بعض النقاط في إغراق زوارق للمصريين أثناء العبور، ووجَّه بعضها المدفعية والطيران للضرب الفعال لبعض الجسور وتجمعات القوات المصرية، وتسبب ذلك في خسائر، لكن لم تؤثر في حركة المشاة والمدرعات المصرية.

وعندما كان يخفق المصريون في احتلال نقطة، فإنهم كانوا يمرون عليها ويواصلون تقدمهم، عدا نقطة (بودابست)؛ لظروفها الطوبوغرافية الخاصة، وردت المصريين رغم هجومهم العنيف، وأجبرتهم على العودة إلى بورسعيد.