كتبه/ مصطفى حلمي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
كان عطاء رحمه الله مفتيًا ينفرد عن باقي المفتين؛ لأنه كان في مجلسه ذِكر الله، لا يفتي وهم يخوضون، فإن تكلَّم أو سُئِل عن شيء أحسن الجواب، ولا يقتصر الذكر هنا عن الأداء باللسان فحسب؛ لأنه يرى أن ذكر الله أشمل وأعم من هذه الدائرة الضيقة، فإن مجلس الذكر يعني عنده: مجالس الحلال والحرام؛ كيف تصلي؟ كيف تصوم؟ كيف تنكح وتطلق؟ وكيف تبيع وتشتري؟
فليس إذًا هو الذكر باللفظ المفرد: "الله... الله" الذي جعله الغزالي فيما بعد أحد المسالك المؤدية إلى الكشف الصوفي!
وقد رَوَى عنه عددٌ كبيرٌ من التابعين من طبقة الزهري، وعمرو بن دينار، والشيوخ الكبار، مثل: أيوب السختياني، وغيره، أي: أنه كان أيضًا من رواد الحياة الروحية؛ لأنه أحاط في آرائه بالمعاني التي خاض فيها الزُّهاد.
نقل عنه الإمام أحمد بإسناده مِن وصفه: "ما رأيت مثل عطاء قط، وما رأيت على عطاء قميصًا قط، ولا رأيت عليه ثوبًا يساوي خمسة دراهم!".
وأعجب الحسن البصري عندما سمع قول عطاء: "ما قال العبد: يا رب، يا رب ثلاث مرات، إلا نظر إليه الله"، ووجد تأييدًا لرأيه من واقع الآية: "ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا" إلى قوله تعالى: "فاستجاب لهم ربهم".
ويتفق عطاء في تفسيره للذكر مع تفسير مجاهد في قوله تعالى: "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"؛ فقد فسَّر الآية بأن التجارة لا تصرفهم عن أداء حقوق الله التي فرضها عليهم؛ إذ يؤدونها في أوقاتها.
ومن المسائل التي تحدث فيها عن نطاق حياة الزهد، ومبادئ الأخلاق: أنه صرَّح بكراهيته لرؤية وسادة في منزله؛ لأنها تدعوه إلى النوم، فهو يفضِّل القيام، ولا يحب مَن يلبس ثوب الشهرة.
ويبدو أنه رأى التوسع في لباس الزهد فأنكره.
أما عن أخلاقياته: فهو ينصح بالكف عن الحسد فيقول: "ولا تغبطن ذا نعمة بما هو فيه، فإنك لا تدري إلى ماذا يصير بعد الموت!".
ولما كان عطاء قد عاصر الفترة الحرجة في التاريخ العقائدي والسياسي للمسلمين على إثر مقتل عثمان رضي الله عنه؛ ذلك لأنه عقل مقتله، فقد نصح الأمة وأرشدها، ولم يلبس لباس الزهاد المعتكفين بعيدًا عن الأحداث.
وينقل لنا ابن كثير نضاله عن مذهب السلف حيث قال وهو يطوف بالبيت ليعلن الموقف الصحيح مِن باقي الاتجاهات المعاصرة له: "أمسكوا، احفظوا عني خمسًا: القدر خيره وشره، حلوه ومره من الله عز وجل… وأهل قبلتنا مؤمنون حرام دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وقتال الفئة الباغية بالأيدي والنعال والسلاح، والشهادة على الخوارج بالضلالة".
ولما انفجرت المشاكل التي أثارها الشيعة والخوارج والمعتزلة بالكوفة، أدلى برأيه فيما دار من مسائل؛ فقد دار حوار بينه وبين الإمام أبي حنيفة النعمان، عندما سأله الفقيه عن بعض المسائل، ففضل أن يستفسر منه عن بلده أولًا، ولما عرف أنه من الكوفة سأله: "أنت من أهل القرية الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا؟"، وعاد يسأل أبا حنيفة مرة أخرى عن الجماعة التي ينتمي إليها، فأجابه: "ممَّن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ"، فاطمئن لإجابته.
وليست هذه القصة مِن قِبَل التعصُّب الإقليمي الذي نعرفه بين أهل المدن؛ لأن عطاءً كان يعيب على أهل الكوفة حينذاك الاختلاف والفرقة، ولكنه اطمأن عندما أعلن أبو حنيفة أنه يعتنق المبادئ السليمة كما تلقاها من السلف، فلم يعد يهتم بعدها مِن أي بلد هو، بل قال له: "عرفت فالزم".