الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد فُوجِئ العَالَمُ الإسلامي بمسئولٍ في "الحزب الحاكم في الهند" يدلي بتصريحاتٍ يَصِفُ فيها زواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن عائشة رضي الله عنها في سنِّ السادسة، ثم البناء بها في سنِّ التاسعة؛ أنه بمثابة الاغتصاب!
والهند رغم أن لها تاريخًا مخزيًا في اضطهاد المسلمين الهنود، والعدوان عليهم؛ إلا أن هذا العُدْوَان كان يحدث كلَّ مرة ممَّن يسمونهم: المتطرفين الهندوس، أو السيخ، في ظل تواطؤ الشرطة، وأما أن يُقدِمَ مسئول حزبي على الحديث، وعن شخص النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذه واقعة جديدة مِن نوعها تستدعي وقفة حازمة من كلِّ مسلمٍ غيور.
وهذه وقفات مع هذه الحادثة المفجعة:
الأولى: يقول تعالى: "الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا"؛ فقد اعتدنا أن نسمع الطعنَ من الغرب، ونطأطئ الرؤوس -إلا مَن رحم ربي-؛ يطعنون في نبيِّنا، ويستضعفون إخواننا، وينهبون ثرواتنا، وكثير منا يخشى أن يردَّ بالذبِّ عن دينه وعرضه، وعرض نبيه صلى الله عليه وسلم!
وفوق هذا يطلبون منا ألا ندعو للحق الذي معنا، ولو كان بالحكمة والموعظة الحسنة، ويروِّجون لنا شعارات باطلة نحو: زمالة، ووحدة الأديان، وغيرها مما ينافي ما نعتقده: "إن الدِّين عند الله الإسلام".
نعم يأمرنا ديننا بالبر والإقساط مع المسالمين: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"، ولكن القوم لا يقنعون بالبر والإقساط الذي أمر الله به، وإنما يطلبون منا زورًا وبهتانًا أن نشهدَ: أن كلَّ الأديان متساوية، وأن نسوي بين شهادة أن لا إله إلا االله وبين الاقوال الشركية التي قال الله فيها: "تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا"، ومع هذا نرى البعض منا يسارع في السَّير في رِكَاب هذه الدعوات الباطلة حتى وَصَل بهم الحال إلى الدعوة إلى دينٍ جديدٍ يسمونه زورًا: بـ"الدِّين الإبراهيمي"، وهُمْ بذلك داخلون في قوله تعالى: "فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ".
ومِن ثَمَّ؛ فإن هذا الإجرام يُشَارِك في وزره: كلُّ مَن دعا إلى أي دعوة تزعم مساواة الإسلام بغيره مِن الأديان؛ فضلًا عن وحدته معها.
وكل مَن خرج منافحًا عن عبادة البقر! ولا ندري: لماذا لم يأتِ على الهواء فيصبغ ثوبه وبدنه ببول وروث البقر؛ طلبًا لتطهيره كما يقرر عُبَّادُها؟!
ويدخل في هذا: كلُّ مَن كَذَّب وافترى، وزعم أن شهادة: "أن لا إله إلا الله" تكفي، وإن امتنع قائلها مِن أن يضم إليها شهادة: "أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم"! كما هو إجماع السلف، بل والأشاعرة أيضًا، كما قال تعالى: "إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا".
الثانية: هذا الأفَّاك؛ إن كان قد شغلته دعاوى الحركات النسوية، ويريد أن ينقدَ الأديان على ضوئها؛ فعنده دينه، وسيجد فيه من الأمور التي تستحق تلك النظرة النقدية الشيء الكثير.
ففي كتاب تشريعاتهم: "منوسمرتي" أو "شرائع منو": أنه يمكن زواج البنت ذات الثماني سنوات (وهو أصغر مِن السنِّ الذي بَنَى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها).
وفيه: أن المرأة التي لا تقوم بحق زوجها تستحق أن تفترسها الكلاب!
كما جاء فيه: "إذا أَبَت الزوجةُ أن تقوم بما عليها لزوجها من الواجبات الزوجية مدفوعة بالغرور والفخر؛ بأسرتها أو بجمالها؛ فعلى المَلِك أن يجعل الكلابَ تفترسها على مشهدٍ مِن جماعةٍ مِن الناس!".
وفيه: "أنها إذا ترمَّلت؛ فإن أرادها شقيق زوجها ورضيته فتتزوجه، وإن لم يردها أو لم ترده؛ فيحرم عليها الزواج والزينة طوال حياتها إلى أن تموت! ويلزمها -فوق هذا-: التقلل من الطعام حتى تبدو عليها علامات الهزال" (مما جعل البعض يلقِّب الأرملة الهندوسية بالأرملة الملعونة!).
بل نزيده من الشعر بيتًا: أنه لما شاع في بني دينه تزويج البنات الصغيرات لمَن يكرهن مِن العجائز (وليس كما في حالة النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة رضي الله عنها، وهو أكمل الخَلْق خُلُقًا وخلقة، وقوة وحسن خلق، وحسن عشرة للأهل)، والمرأة وَفْق دينه كما جاء في كتابهم هذا: إذا دفعها أبوها إلى زوجها لزمها هذا أبدًا؛ فكانت الفتيات الصغيرات يتخلصن من أزواجهن في هذه الحالة بالقتل، ومِن ثَمَّ تفتَّق ذهنُ كَهَنَة هذا الدِّين عن إحراق جثة المرأة المتوفَّى عنها زوجها مع إحراق جثته؛ زجرًا لمَن تُفكِّر في قتل زوجها، فحكموا على كلِّ امرأة أن تُقتَل مع وفاة زوجها؛ ليمنعوا من وقائع قتل العجائز المغتصبين للصغيرات، ولم يقلعوا عن هذا إلا بقراراتٍ صارمةٍ مِن الاحتلال الإنجليزي! ولا يتسع مقام هذا البيان لذكر أكثر مِن ذلك.
الثالثة: أن عقدَ زواج الطفلة غبر البالغة يأذن فيه الشرع بقيود (تختلف من مذهبٍ لآخر)، ولا يكون إلا إذا وَجَدَ الوليُّ (والبعض لا يعطي هذا الحق إلا للأب أو الجد فقط) أن مِن مصلحتها: أن يعقد زواجها مبكِّرًا، وعائشة رضي الله عنها -كما هو ظاهر- كانت مِن النضج الكافي في عقلها في صغرها، فتسابق الوجهاء إلى خِطبتها حتى إنها خُطِبت لجبير بن مطعم قَبْل خطبتها للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم عَقَد عليها وهي في السادسة، وبَنَى بها وهي في التاسعة؛ فلو كان الأمر على ما يصوِّر هؤلاء الأفاكون لما تريَّث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات كاملة قبل البناء بها.
وسِنُّ التسع سنوات في هذه البيئة في هذا الزمان كافٍ جدًّا للنضج الجسدي (وكنا نرى هذا في الريف منذ زمنٍ ليس بالبعيد)، وأما النضج العقلي؛ فحسبك ما تركته عائشة رضي الله عنها مِن عِلْمٍ غزير؛ نقلًا وفهمًا؛ لتدرك مقدار ما حاباها الله به مِن عقلٍ.
هذا والمشركون أعداؤه المتربِّصون به صلى الله عليه وسلم لم يُشَنِّعوا عليه بهذا، وأبوها ازداد شرفًا إلى شرفه بمصاهرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهي عاشت معه رضي الله عنها، وهي في قمة سعادتها كمؤمنة وكزوجة، إلى أن تُوفِّي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبه متمكن من قلبها؛ حتى إن حسان بن ثابت رضي الله عنه استأذن أن يزورها، وكان ممَّن وقع في الإفك، فأذنت فاستعجب البعض: كيف اتسع قلبها لهذا؟! قالت: لأنه كان ينافح عن النبي صلى الله عليه وسلم!
هل وُجدِ حبُّ امرأة لزوجها وبعد وفاته كمثل هذا الحب؛ ليأتي هذا الأفاك ويسميه: اغتصابًا؟!
وفي النهاية: هذه الزيجة المباركة المكللة بالحب بداية وتوسطًا وانتهاءً؛ أثمرت الثمرة المرجوة من وجود فتاة بهذا الذِّهن الوقَّاد زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحفظت الصِّدِّيقَة بنت الصِّدِّيق للأمة بعقلها وصحبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم العِلْمَ الوفير؛ نقلًا لما عايشته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمًا وفقهًا لمعاني هذه النُّقُول.
الرابعة: لا نعلم دِينًا على وجه الأرض يقرر: أن التشريعَ حقٌّ خالص لله عز وجل لا يشاركه فيه غيره؛ إلا الإسلام، قال تعالى: "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"، وقد أنكر الإسلام على الديانات التي أصلها سماوي (وغيرها من باب أولى): أنهم أعطوا الأحبار والرهبان حق التشريع من دون الله، فقال تعالى: "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ"، فالمسلمون على يقين من صدق وكمال شريعتهم، وأن فيها العدل والقصد والحكمة، وأنه شرع الخالق الذي هو أعلم بنفسه وبغيره "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ".
وبالتالي فالطريق الصحيح لمَن أراد الحوار الجاد المُثْمِر: أن يبحث معنا دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، ودلائل إعجاز القرآن، ونحن على يقين أن مَن تَدَبَّر في هذه الأدلة؛ فسيوقن بصدق رسالة الإسلام، وإن أعرض عن بحث صدق رسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فهذا دليل عناده ومراوغته؛ هذا إن جاءنا في ثوبِ المستفهم الباحث عن الدليل.
وأما هؤلاء المجرمون المستهزئون: فسيخزيهم الله تعالى، وهو القائل: "إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ".
وإن كان هذا الأفَّاك قد ظن أنه بسبِّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم سيلحق برئيس فرنسا وغيره، ممَّن يُصنَّفون بأنهم من كبار الساسة؛ فليبشر بما يسوؤه، فإن ربَّ العزة قال: "إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ".
وسيرى كما رأى غيره قسطًا معجَّلًا مِن الذلِّ في الدنيا، مع ما ينتظره في الآخرة من النار وبئس المصير؛ إلا أن يهديه الله للإسلام قَبْل مماته.
الخامسة: صدرتْ بعضُ ردود الأفعال من المسئولين في كثيرٍ مِن الدول الإسلامية، وصَدَر بيانٌ قوي اللهجة من "الأزهر الشريف"، واضطرت الهند أن تعلن إجراءات ضد هذا الأفاك، وامرأة أخرى ساهمت في هذه التصريحات، ولكن ما زال الأمر يحتاج إلى حملات رفض واستنكار أوسع على المستوى الرسمي، وأيضًا على المستوى الشعبي.
ولا بد أن نستثمر هذا في فتح ملفات طالما قَصَّرنا فيها من حقوق المسلمين الهنود، وفضح الاضطهاد الذي يُعاَنون منه على مرأى ومسمع من العالم.
إن العَالَم يُعَاد تشكيل ملامحه، ورسم خريطة توازنات القُوَى فيه، والعَالَم الإسلامي قوة هائلة، وهو ذو ثروات متنوعة: بشرية، وزراعية، ومعدنية، بخلاف كثيرٍ مِن الأمم، وقد رأينا كيف تهتز أوروبا لنقص واردات القمح أو إمدادات الغاز؛ بسبب الحرب "الروسية - الأوكرانية"، ومِن ثَمَّ فإذا وُجِدَت الرغبةُ في التعاون والاتحاد في مواقف الدول الإسلامية؛ فسوف يستطيع العالم الإسلامي -بفضل الله- أن يضعَ نفسه كقوى يُعمَل لها ألف حساب، فيراعي الجميعُ حرمةَ كِتَابِها ونبيِّها، وتُحفَظ حقوقُ أتباعها في كلِّ مكانٍ على ظهر الأرض.
ولا بد لعموم المسلمين: أن يعتنوا بمعرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يتعلَّموا أحكامَ دينهم مقرونة بأدلتها، وببيان الحِكَم التشريعية فيها؛ حتى ولو لم يكونوا من طلبة العِلْم؛ حتى يستطيعوا أن يوصدوا الأبواب أمام هؤلاء المستهزئين.
نسأل الله أن يعزنا بالإسلام، وأن يستعملنا في نصرته، وأن يُقَاتِل الكفرة الذين يصدون عن سبيله، ويكذِّبون رسله، ويعادون أولياءه. اللهم آمين.
الدعوة السلفية بمصر
6 ذو القعدة 1443هـ
6 يونيو 2022م