كتبه/ مصطفى حلمي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلم تنفرد بلادٌ دون أخرى بالأفكار الروحية؛ فإن طبيعة هذه الأفكار تتلاقى مِن حيث صدورها من مصدرٍ واحدٍ، ولكن اختلاف البلدان قد يضفي عليها طابعًا خاصًّا.
وقد رأينا في طوافنا بأفكار وملامح المسلمين الأوائل مِن الزُّهَّاد؛ أنهم يشكِّلون وَحْدَة متماسكة تتفق من حيث تعمقها في فهم النصوص، وانعكاس آثار الآيات والأحاديث على وجدانهم.
لقد انتشر الصحابة والتابعون في الأمصار المختلفة، واختار طاوس بن كيسان اليماني الإقامة باليمن، وهو أول طبقة أعلمها مِن التابعين.
وفي بحثنا للأفكار التي تدور حول موضوعنا، سنحاول أن نتبيَّن مدى احتوائها على عناصر أخرى؛ خاصة الآثار الفارسية، إذ يذكر ابن كثير أنه: "من أبناء الفُرْس الذين أرسلهم كسري إلى اليمن".
إن ما نعرفه عن النظام الفارسي حينذاك في الحكم هو الخضوع التام لملوكهم، ووضعهم في مرتبة التقديس، ولكن عندما جاء الإسلام بنظرية الشورى في الحكم، ولم يجعل للعربي فضلًا على العجمي إلا بالتقوى، كان لذلك التحوُّل أثره العميق في النفوس، بحيث انحسرت العقائد السابقة؛ قد تبدو آثارها أحيانًا، وهذا أمر طبيعي بالنسبة للبعض الذي تحوَّل من عقيدة إلى أخرى، وقد تشتد هذه الآثار وتضعف لأسبابٍ لا محل هنا لبحثها، لكن يبقى الضوء الساطع مؤثرًا -أي: شمس الرسالة والنبوة كما يسميها ابن تيمية-؛ بحيث تحجب ما عداها، وكانت هذه الظاهرة واضحة في الصحابة والتابعين.
وكان طاوس من التابعين -كما أسلفنا-، وازداد تأثره بالدِّين الجديد؛ لأنه أدرك عصر من الصحابة، ويعد كبر أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن.
فلا عجب إذًا أن يتبدَّل من موقف الذي يقدِّس الملوك إلى موقف المؤمن العزيز الذي لا يخشى إلا الله؛ فقد رفض طاوس السعي لمقابلة أمير المؤمنين حينما قَدِم مكة -وكان طاوس بها حينئذٍ-؛ لأنه ليس به إليه حاجة.
ولما ألحَّ أصحابُه أن يذهب لأمير المؤمنين خشية منه عليه، لم يأبه أيضًا؛ لأنه يعمل بما يعتقده، ويطابق النظر بالعمل، وهو نفسه ينصح عطاءً قائلًا: "يا عطاء، إياك أن ترفع حوائجك إلى مَن أغلق دونك بابه، وجعل دونك حجابه، وعليك بطلب مَن بابه لك مفتوح إلى يوم القيامة، وطلب منك أن تدعوه ووعدك بالإجابة".
ولكنه في إحدى المرات -كما نقرأ في (البداية والنهاية)- يبدو أنه أُجْبِر على مقابلة سليمان بن عبد الملك؛ لأنه هو نفسه قد طلب من حاجبه أن ينظر إليه فقيهًا، يسأله عن بعض مناسك الحج؛ فأدخل طاوس على سليمان عنوة بعد محاولته الرفض، ثم سرعان ما تنبَّه إلى أن موقفه ذلك سيسأله الله عنه، فأفصح في جرأة عما يجيش في صدره، فقال: "يا أمير المؤمنين، إن صخرة كانت على شفير جهنم هوت فيها سبعين خريفًا حتى استقرت في قرارها"، ثم سأل سليمان بن عبد الملك: "أتدرى لمَن أعدَّها الله؟"، فلما أجاب الخليفة بالنفي، عاد يوضِّح له: "إن الله أعدَّها لمن أشركه في حكمه؛ فَجَار!".
ونظريته في الزهد تنبثق من نصيحته لعطاء التي أسلفناها، أي: الإيمان القوي بالعلاقة المتينة بينه وبين ربه عز وجل، فيقصده في كلِّ آن، راجيًا إياه تعالى، خائفًا منه وحده، زاهدًا في أصحاب السلطان والجاه؛ لأنه سبحانه وحده صاحب الحول والقوة؛ قال طاوس: "لا أعلم صاحبًا شرًّا من ذي مال وذي شرف".
وكان حرفيًّا في تطبيق هذه القاعدة؛ لأن أحد أبناء سليمان بن عبد الملك جلس إلى جواره مرة، فلم يلتفت إليه، ولما نبهه أصحابه إليه، قال: "أردتُ أن يعلم هو وأبوه أن لله عبادًا يزهدون فيهم، وفيما في أيديهم!".
ثم إننا نجد شخصية طاووس أحد صور المعارضة لبني أمية التي يُحتمل أن الزهاد أخذوها على عاتقهم عملًا بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ هذا المبدأ الفَعَّال الذي حاولوا به أن يؤثروا بنظرياتهم في حياة المسلمين حولهم.
وقد أرسى طاوس أحد قواعد الحياة الرائدة عند المسلمين ليفرِّق بينها وبين نظرية الزهد المسيحي، فحارب فكرة العزوف عن الزواج، فقال: "لا يتم نُسُك الشاب حتى يتزوج!"، ثم ازداد في تقريعه لمَن يرفض الزواج؛ إذ زجر أحدهم بقوله: "ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور!"، ولكنه مع هذا يحذِّر من النساء، ويصفهن بقوله: "فيهن كفر مَن مضى وكفر مَن بقي"؛ مفسِّرًا الآية: "وخُلِق الإنسان ضعيفًا" بأن الإنسان لا يكون في شيء أضعف منه في النساء؛ فهل كان يحض على الزواج ويدعو له ويحارب الهاربين منه بغرض دعوته لاتقاء الفتنة، أم أنه خشي تأثير الرهبنة المسيحية؟
من حديثه عن الزواج يتَّضِح أنه وَقَف في وجه التيار المتشبه بالرهبان، الذي يبدو أن البعضَ حاول السير في اتجاهه، وأبرزه: مظاهر الامتناع عن الزواج، ولكن هذا لا يمنعه من بثِّه لتعاليم الكتب السماوية مع اتفاقها في الأصول، فقد جَمَع -فيما يرى- التوراة والإنجيل والقرآن في عبارةٍ واحدةٍ هي: "خَفِ اللهَ مخافة لا يكون عندك شيء أخوف منه، وارجه رجاءً هو أشد من خوفك إياه، وأحب للناس ما تحب لنفسك".
ثم يقدِّم طاوس لنا أحد عناصر نظريته؛ مما يجعله في دعائه يفصل بين مظاهر الحياة الزائلة وبين الأسس التي تظل باقية فيما وراءها، فكان دعاؤه: "اللهم احرمني كثرة المال والولد، وارزقني الإيمان والعمل".
وكان يرفض أن يدعو لمَن يطلب منه الدعاء، ويأمر طالب الدعاء أن يدعو لنفسه؛ لأن الله يجيب المضطر إذا دعاه، وأحيانًا يعتذر لسببٍ آخر، وهو أنه لا يجد في قلبه خشية فيدعو!
ونراه يؤثِّر في الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فيما بعد، حيث ترك الأنين في مرضه عندما عَلِم بقول طاوس: "ما مِن شيءٍ يتكلَّم به ابن آدم إلا كُتِب عليه، حتى أنينه في مرضه".