رمضان ... طاعات أطفأت فتنَ شُبُهات، ووحَّدت قلوبَ الأمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
"قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون"؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "بِفَضْلِ اللَّهِ: القرآن. وَبِرَحْمَتِهِ: حين جعلهم مِن أهل القرآن".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِ) (متفق عليه)، فيفرح المسلمون بنِعَم الله الدينية: أن جعلهم مِن أهل الإسلام، ومِن أهل القرآن، وأن وفَّقهم إلى قراءته بالنهار، والقيام به بالليل؛ خاصة في شهر القرآن "شهر رمضان"؛ حيث تتأكَّد صلاة قيام الليل، فهي في هذا الشهر مِن آكد السُّنن، وأشبهها بالفرائض؛ حيث يُسَنُّ الاجتماع لها في المساجد، ويترتَّب على ذلك فضلٌ عظيمٌ قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ورمضان هذا العام كان مبهجًا -بفضل الله- أكثر مِن أي عام؛ لأنه لأول مرة منذ مجيء وباء كورونا -نسأل الله أن يكشفه عن بلاد المسلمين-، يؤدي المسلمون عبادتهم الرمضانية بصورةٍ شبه معتادة؛ فرأينا مشاهد انشرحت لها الصدور، وكأننا نراها لأول مرة!
رأينا الأُسَرَ تخرج؛ رجالًا ونساءً في مشهدٍ مهيبٍ، يقصدون المساجد لصلاة القيام، بل لصلاة التهجد في مشهدٍ يدل على أن دِينَ الإسلام دينٌ شاملٌ منظِّمٌ لكل مناحي الحياة، "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"؛ حيث شَرَعَ تكوين الأسرة، وبيَّن كيفية تحقيق التعاون بين أفرادها، وهَدَى المرأة لِمَا يناسبها مِن الستر والعفاف، ورغَّب الأبوين في حُسْن تربية الأبناء، وشَرَع لهم العبادات التي يتقرَّبون بها إلى الله.
وبالإضافة إلى هذه المشاهد التي عشناها ورأيناها بأعيننا، كانت وسائل التواصل الاجتماعي تنقل لنا على صعيدٍ آخر، مشاهد أكثر بهجة لتلك المظاهر الرمضانية في: "الكعبة" -قِبْلَة المسلمين-، وفي "مسجد النبي" صلى الله عليه وسلم ومدينته المنورة، وفي "الأقصى" -أولى القبلتين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم-.
إن هذه المشاهد لم تكن مجرد مشاهد خير وبركات مَنَّ الله بها على المسلمين ليسرِّي عنهم بها ما أَلَمَّ بهم مِن طعناتٍ تلو طعناتٍ، مِن تكالُب الأعداء ومكرهم، واستضعافهم للمسلمين في كلِّ بقاع العالم؛ لا سيما في فلسطين، وطعنات ممَّن هم مِن جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!
ولكن مما يزيد هذه المشاهد روعة: أنها مَثَّلت ردودًا مباشرة على كيد الأعداء ومكرهم، وصدق الله تعالى إذ يقول: "وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ"، وقال عز وجل: "إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ"؛ فهلم نقف مع كلِّ مشهدٍ من هذه المشاهد وقفة يسيرة؛ لنرى نعمة الله علينا فيها، ولنشكره عليها:
الوقفة الأولى: الأُسَر المسلمة تجتمع في التهجد، وأرواحهم تهفو لمَسْرَى رسولهم صلى الله عليه وسلم:
استثار الكاتبُ -مُثِيرُ الفتن- أشواقَ المسلمين إلى القدس مَسْرَى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا شَكَّك في رحلة المعراج، واستثار اليهودُ غضبَ العَالَم الإسلامي عندما ضيَّقوا على المسلمين في أداء عبادتهم لله في المسجد الأقصى، والسماح لليهود بتدنيسه بشركهم، واستبسل إخواننا في فلسطين؛ فسطَّروا ملاحم مِن رجالٍ ونساءٍ وأطفالٍ؛ توافدوا من كلِّ مكان لعمارة المسجد الأقصى بصلاة التراويح والتهجد!
وإن كان مِن عادة الناس تتبع صلاة القيام والتهجد في الحرمين الشريفين؛ لكونها الصلاة الأكثر عددًا في العَالَم الإسلامي، ولتعلُّق قلوب المسلمين بالحرمين الشريفين؛ إلا أنه في هذا العام كان ثالثُ المساجد شَرَفًا "المسجد الأقصى"، مِن أكثرها اهتمامًا، وعزًّا وشرفًا، وتأكيدًا على أن قلب الأمة ما زال ينبض.
الوقفة الثانية: الأسرة المسلمة في مواجهة التحديات:
كل شعوب العالم -حتى التي لا تدين بالدِّين السماوي الحق دين الإسلام، ولا حتى بأي دين من الأديان التي أصلها سماوي- تعتبر الأسرة هي لبنة المجتمع، والأسرة تتكون ابتداءً مِن رجل وامرأة يتزوجان ثم ينجبان أطفالًا، ويتشاركان في مهام رعايتهم.
ولا يكاد يشذُّ عن هذا إلا سقطات نادرة في التاريخ القديم، ثم ما يحاول العَالَم الغربي أن يقودنا إليه الآن مِن إعطاء الأفراد حرية العبث بخلقتهم التي خُلِقوا عليها؛ ليمارسوا شذوذًا جنسيًّا بغيضًا، بل ويسعون ليمكِّنوا هذه الكائنات الممسوخة مِن تكوين أسر يمارسون فيها الدور الذي اختاروا أن يمسخوا أنفسهم إليه؛ لا الدور الذي خَلَقَهم الله عليه!
وقد ترنَّحت البشريةُ في ضبط العلاقة بين الرجل والمرأة، فانتقلتْ مِن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومَنَّ اللهُ على المسلمين في هذه القضية -وغيرها- بهذا الشرع الوسط العَدْل؛ الذي يحقق مصالح العباد في الدنيا والآخرة؛ فأعطى لكلِّ طرفٍ مِن الطرفين إنسانيته، وفرصته في أن يتقرَّب إلى الله بكلِّ أنواع العبادات، وأن يوظِّف ما مَنَّ الله به عليه مِن قدراتٍ؛ لخدمة أسرته، ومجتمعه، ودينه.
ومشهد الأُسَر التي تخرج لشعيرة القيام والتهجد، يعتبر أحد المشاهد المشرِّفة التي ينبغي أن تكون عليها الأسرة المسلمة مِن التوادِّ والتراحم والتعاون على رضا الله تعالى؛ لا سيما وقد رغَّب الله الرجال والنساء في التسابق في مضمار طاعته، فقال تعالى: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا".
وفي هذه الآية بيان: أن هذا الشرف الأخروي -الذي هو في الإسلام الشرف الحقيقي- متاح للرجال والنساء على حدٍّ سواء، وأما كيف يتم توزيع الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء، فتضمنه تشريع دقيق مُحْكَم بفضل الله تعالى.
الوقفة الثالثة: أزمة تزايد معدلات الطلاق:
من محاسن شرع الله تعالى: أنه جعل مِن شروط صحة الزواج أن يُرَاد به التأبيد، وهذا يدل على أن الأصل في الزواج أن يكون كذلك؛ إلا أنه كما لا يَخْفَى على كلِّ عاقل قد يدب خلافٌ يبقى معه الانفصال هو أقل الاختيارات ضررًا.
وبطبيعة الحال: فإن الشيطانَ يريد أن يوقِعَ العداوةَ بين الناس بصفة عامة، والأزواج بصفة خاصة؛ طلبًا لوقوع الطلاق أو للنفرة بين الزوجين، ومِن ثَمَّ فتح باب الشهوات المحرمة عليهما؛ ولذلك أرشد الله عز وجل إلى التريُّث قبل إمضاء الطلاق، فقال تعالى: "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا".
وهذه قضية تحتاج إلى معالجة في ظلِّ الضغط المتزايد للمسلسلات التي تدفع المرأة للتمرد على الحياة الزوجية، وتضغط على شهوات الرجال بمشاهد تجعلهم يشعرون ببون شاسع بين الصورة السينمائية المزيَّنة، وبين الواقع الذي يعيشونه مع زوجاتهم!
الوقفة الرابعة: حقوق المطلقة، والحضانة والولاية، والتوازن بين حقوق الأبناء وحقوق الآباء والأمهات:
إذا وَقَع الطلاق فإن الشرع يوصي بأن يكون وقوعه بصورة لا تظلم المرأة، ولا تجعلها كالمُعَلَّقة، ومَن أدرك هذا يدرك: أن عدم إيقاع الطلاق الشفهي ظلم بيِّن للمرأة التي ستكون تيقَّنت أنها سمعت الطلاق بأذنيها، بينما القاضي لا يعتد به، وأن حقَّ المطلقة على العكس من ذلك تمامًا، وهو: إعطاؤها الأدوات التي مِن خلالها تجبر الرجل المطلِّق على سرعة توثيق الطلاق الشفهي، وهو ما انتهت اليه المناقشات الدائرة في مصر منذ عِدَّة سنوات بفضل الله تعالى، كما أن الشرعَ حفظًا لحقوقها، ولحقوق الصغار، جعل الحضانة لها ما لم تتزوج.
وقد استغل البعضُ عدم شيوع العِلْم بهذه المسائل ليطعن في شرع الله تعالى؛ ولذلك لَزِم التنبيه على أهمِّ ضوابط قضية الحضانة، وهي كالتالي:
- الأم طالما وُجِدت وكانت بلا زوجٍ؛ فهي أَوْلَى الناس بحضانة الصغير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
- وهل: لو تزوجت الأم بذي رحمٍ للطفل تسقط حضانتها؟ اختلف أهل العلم في هذا، ولعل الأقرب: عدم سقوط حضانتها، وإنما تسقط لو تزوَّجت بغير ذي رحمٍ للطفل.
- إذا تزوجت المرأة فقد شُغِلت بحقِّ زوجها، فمِن مصلحة الطفل نقله إلى حاضنة أخرى غير الأم المشغولة بحق الزوج؛ ولئلا يكون تحت ولاية رجل أجنبي عنه، بل غالبًا ما يرى زوج الأم فيه مزاحمًا لأبنائه في أمه، وقد يحدث غير ذلك، ولكنه نادر، والشرع لا يعلِّق الأمور "لا سيما التي يتحاكم العبادُ إليها" على النادر.
- إذا سقط حق الأم في الحضانة لزواجها، فتنتقل الحضانة عند الجمهور إلى قائمة من النساء مقدَّمات على الأب في الحضانة؛ بشرط ألا يكُنَّ ذوات أزاوج، أو يكن متزوجات مِن ذي رحم للطفل، والأقرب: أن التي تلي الأم في الحق هي الجدة أم الأم؛ فإن لم تكن فالجدة أم الأب، والبعض يجعل أيضًا الخالة بعدهما طالما لم تكن متزوجة بأجنبي عن الطفل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ" (رواه البخاري)، ثم يأتي حق الأب في الحضانة بعد ذلك، وربما قَدَّمتْ عليه بعضُ المذاهب نساء أخريات.
ومع هذا يأتي جاهل أو مُغْرِض "أو جامع بين الأمرين" ليقول: إن الفقهَ وضعه فقهاء ذوو فكر ذكوري!
في حين أن الفقهاء إنما دورهم في الفقه هو محاولة فهم الدليل، ولا يوجد -بفضل الله- في الشَّرْع، ولا عند الأئمة الذين كَتَبَ اللهُ لهم لسانَ صدق في الأمة شيءٌ مِن هذه الأهواء.
الوقفة الخامسة: جوابٌ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر من ابن مسعود رضي الله عنه على كَاتِب المسلسل ومُرَاجِعِه:
جاء على لسانِ بطلة إحدى المسلسلات: أنها لا تَقْبَل حُكْمًا في مسألة حضانة الأطفال؛ إلا إذا قاله الله بنفسه، (وقد قَدمَّنا الحِكَم التشريعية البليغة في أمر الحضانة، وكيف أنه تشريع يحقق العدل والتوازن)، وقد زعم مؤلِّف المسلسل: أن الشيخ الأزهري الذي جاوبها لم يملك حيلة أمام سؤالها؛ إلا أن يدَّعي أنه حفظها هكذا ... !
مع أن مؤلِّف المسلسل ومراجعه لو أرادا بيان الحق؛ لجعلا الشيح يجيبها بقوله: إذا كنتِ تريدن الزواج؛ فهذا حقك، ولكن بأي حق تريدين لأولادك أن يتربوا في كَنَف زوج أم؟!
وإذا كانت الحالة هكذا، وأمها ليست على قيد الحياة، وكذلك أم طليقها (هكذا أراد المؤلف لكي تنتقل الحضانة إلى الأب)؛ فكان يسعه أن يبيِّن لها: أن حياة الأطفال مع أبيهم حتى ولو مع وجود زوجة أب أفضل من أن يكونوا في كنف زوج أم، ولو افترضنا أن أبا الأطفال ليس أهلًا للحضانة (كما ألَّف كاتب المسلسل)؛ فأمامها القضاء تثبِت من خلاله أنه ليس أهلًا للحضانة، بدلًا مِن الطَّعْن في السُّنَّة!
وفي النهاية: فعندهما عشرات، بل مئات الردود التي كَتَبَها العلماءُ عَبْر تاريخهم ردًّا على مَن طَعَن في حجية السُّنة، ونكتفي بجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجواب ابن مسعود رضي الله عنه قبل أن نُبتَلَى بأمثالهما أصلًا.
أما جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوله: " يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ؛ أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الله مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ".
وأما جواب ابن مسعود رضي الله عنه، فجاء ردًّا على سؤالٍ كسؤال ذلك الكاتب: فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ؛ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ يَعْقُوبَ؛ وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ، فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا".
الوقفة السادسة: غلاء الأسعار:
إن موجةَ غلاء الأسعار التي تمر بالعَالَم كله، تمر بالمؤمن والكافر، والبر والفاجر؛ بيد أن أمرَ المؤمن مختلف عن غيره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ" (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ" (متفق عليه).
وعيد الفطر يرتبط به زكاة خاصة، هي زكاة الفطر التي فَرَضَها رسول الله صلى الله عليه وسلم طعمةً للمساكين، وطهرةً للصائم مِن اللغو والرفث، كما أن كثيرًا مِن أصحاب الأموال يتحرون بزكاتهم شهر رمضان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حينما يأتيه جبريل عليه السلام فيدارسه القرآن.
ولا شك أن التجار يستطيعون أن يساهموا في هذا بألا يقعوا في الاحتكار الذي نَهَى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وحبذا لو أقدم التجار على خفض هامش ربحهم إلى اقصى درجة، فمَن نَفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كُرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على معسرٍ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مؤمنًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
ويجب على كل مسئول ألا يدَّخِر وُسْعًا في تسهيل أمر الناس، "فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
الوقفة السابعة: التوبة النصوح طريق النصر في الدنيا، والنجاة في الآخرة:
قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ"، وقال عز وجل: "وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ".
وخاطب اللهُ عز وجل أفضلَ الخلق بعد الأنبياء، وهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وبيَّن لهم سبب التراجع الذي حدث في غزوة أُحُد بعد بدايتها بنصر ساحق للمسلمين، فقال تعالى: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
فلنتب لله تعالى أفرادًا بتعلُّم العقيدة الصحيحة، والمواظبة على العبادة، والتحلي بمكارم الأخلاق، ولتسمع النساء المسلمات إلى نداء الله لنبيهن لكي يخاطبهن بمقتضى إيمانهن أن يلتزمن بالحجاب: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا".
وليعرف الرجال: أن معيارَ الرجولة يُقَاس بحسن معاملة الزوج لزوجته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي" (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وعلينا أن نسعى كمجتمعاتٍ إلى أن نكون مجتمعًا مترابطًا متراحمًا، آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ".
وعلينا أن نعلم أن: شرع الله شرع كامل شامل، ينظِّم حياة الفرد والمجتمع والدولة، وأن السعادة في اتباعه، وترك أهواء ذوي الأهواء: "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ".
وأن نتذكر قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدِّين، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله".
وقول الإمام مالك رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
اللهم كُنْ لإخواننا المجاهدين في فلسطين؛ اللهم سدد رميهم، ووحِّد صفهم، وثبِّت الأرض مِن تحت أقدامهم.
اللهم حرر المسجد الأقصى مِن دَنَس اليهود، ورده إلى المسلمين ردًّا جميلًا.
اللهم ارزقنا فيه صلاة قبل الممات.
اللهم انصر إخواننا المرابطين في القدس؛ اللهم كن لهم ناصرًا يوم قلَّ الناصر، اللهم احفظهم مِن بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن تحتهم ومن فوقهم.
الدعوة السلفية بمصر
الأحد 30 رمضان 1443هـ
1 مايو 2022م