الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 22 أكتوبر 2019 - 23 صفر 1441هـ

من نور السُّنة... (وَلَا صَفَرَ!)

كتبه/ عصام حسنين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا عَدْوَى، وَلَا صَفَرَ، وَلَا هَامَةَ) فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ فَمَا بَالُ الْإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيَجِيءُ الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيُجْرِبُهَا كُلَّهَا؟ قَالَ: (فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟) (متفق عليه).

وفي رواية: (لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا صَفَرَ، وَلَا هَامَةَ) (رواه مسلم).

وفي رواية: (لَا عَدْوَى، وَلَا غُولَ، وَلَا صَفَرَ) (رواه مسلم).

وفي رواية لمسلم: (وَلَا نَوْءَ، وَلَا صَفَرَ).  

وفي رواية: (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ) (رواه البخاري).

- في هذه الأحاديث الشريفة يبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- معتقدات الجاهلية، حيث كانوا يعتقدون أن هذه الأشياء تؤثِّر بذاتها دون الله -عز وجل-؛ فنفى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك؛ لأن الضار النافع هو الله -تعالى-، وكل شيء بتقديره -تعالى-، فهو -عز وجل-: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (يونس:3)، (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (الأعراف:54).

- وهو رب العالمين، خالق كل شيء، خالق الخير والشر، ولا يُنسب إليه الشر أدبًا، ولا شر في أفعاله، إنما الشر في بعض مخلوقاته؛ ابتلاءً منه لعباده، له المشيئة النافذة في خلقه أجمعين؛ فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد.

فالمرض لا يؤثِّر بذاته، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ عَدْوَى)، أي: لا عدوى مؤثرة بذاتها، وأكد -صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله: (فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟)، وهذا لا يمنع وجود أمراض معدية لا بد مِن تجنبها وأخذ بأسباب النجاة منها؛ ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ). والجذام: مرض معدٍ ينتقل عبر رذاذ الأنف أثناء الجماع المتكرر، أو ملامسة الأشخاص المصابين لفترات طويلة.

وبعض حالاته شديدة العدوى "خاصة الأسدي"، وهذا المريض عندما يرى الإنسانَ الصحيح يديم النظر إلى وجهه؛ يزداد حزنه ومرضه، فأمرنا -صلى الله عليه وسلم- أن نفر منه حتى لا يزداد حزنه، وأخذًا بأسباب النجاة منه، مع التفات القلب إلى مسبب الأسباب -سبحانه وتعالى-، وقال -صلى الله عليه وسلم-:  (لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ) (رواه مسلم)، أي: لا يورد صاحب الإبل المريضة منها على الصحيحة أخذًا بالسلامة، وبأسباب النجاة من التهلكة.

- والطيور والشهور لا علاقة لها بما سيصيب الإنسان من خير أو شر، قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا طِيَرَةَ). والطيرة هي: التشاؤم والتفاؤل بالطير؛ كانت العرب إذا أراد الرجل منهم سفرًا أو أمرًا عمد إلى الطير فحركها؛ فإن طارت يمينًا تفاءل وأتم أمره، وإن طارت شمالًا تشاءَم وقطع أمره! فنفى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك فقال: (وَلَا طِيَرَةَ)، وقال: (الطِّيَرَةُ شِرْكٌ) قالها ثلاثًا. (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وقال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطِيَّرَ لَهُ) (أخرجه البزار والطبراني في الكبير، وقال الألباني: صحيح لغيره).

وهذا يجعل المؤمن يتوكل علي ربه -وحده- الذي بيده ملك الضر والنفع، الذي يقول في كتابه: (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (الزمر:38)، وقال: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنعام:17).

- ونفى -صلى الله عليه وسلم- تأثير الهامة بقوله: (وَلَا هَامَةَ)، أي: البومة على تفسير؛ إذ كانوا يتشاءمون من البومة إذا وقفت على بيت أحدهم، ويقولون: نعت إلى نفسي! فنفى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك.

- ونفى -صلى الله عليه وسلم- تأثير الغول بنفسها فقال: (وَلَا غُولَ)، حيث كانوا يعتقدون أن الغيلان تتراءى للناس في الفلوات والصحراء، فتضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنها لا تستطيع أن تضل أحدًا، وأبطله، وليس هذا نفيًا لوجود الغول الذي هو نوع من أنواع الجن، ويشهد له ما روي عنه -صلى الله عليه وسلم-: "لا غول، ولكن السعالي سحرة الجن" (أخرجه الخطابي في "غريب الحديث" من مرسل الحسن بن محمد ابن الحنفية)، وحديث أبي أيوب: "أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ سَهْوَةٌ فِيهَا تَمْرٌ، فَكَانَتْ تَجِيءُ الغُولُ فَتَأْخُذُ مِنْهُ... " (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

ونفى -صلى الله عليه وسلم- تأثير الأنواء في نزول المطر فقال: (وَلَا نَوْءَ). والنوء واحد الأنواء، وهي: منازل القمر، وهي ثمانية وعشرون منـزلة، يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، ويطلع أخرى مقابلها ذلك الوقت في الشرق، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع نظيرها يكون مطر فينسبونه إليها، فيقولون: مطرنا بنوء كذا!

فنفى -صلى الله عليه وسلم- تأثيرها في نزول المطر بقوله: (وَلَا نَوْءَ)، وفي حديث زيد بن خالدٍ الجهني قال: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ) (متفق عليه).

- ونفى -صلى الله عليه وسلم- اعتقادهم تأثير شهر صفر في أحداث الدهر بقوله: (وَلَا صَفَرَ).

وسبب تسميته بذلك:

قيل: لإصفار مكة مِن أهلها، أي: خُلوها إذا سافروا فيه.

وقيل: لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون مَن لقوا صِفرًا مِن المتاع، أي: يسلبونه متاعه، فيصبح لا متاع له، وكانوا لا يعقدون فيه نكاحًا؛ تشاؤمًا أن يصيبهم فيه شيء، فنفى -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وقال: (وَلَا صَفَرَ).

وأبطل -صلى الله عليه وسلم- ذلك بفعله؛ فقد تزوج خديجة -رضي الله عنها- في شهر صفر، وكذا تزوج عائشة وبنى بها في شهر شوال -وكانوا يتشاءمون منه-؛ وكذا زوَّج -صلى الله عليه وسلم- ابنته فاطمة -رضي الله عنها- لعلي -رضي الله عنه- في شهر صفر.

وكانت غزوة الأبواء وخيبر وإرساله جيش أسامة -رضي الله عنه- لغزو الروم في شهر صفر، وكل ذلك منه -صلى الله عليه وسلم- إبطال لمعتقدات الجاهلية، وقد قال في خطبة الوداع: (أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ) (رواه مسلم).

- وللأسف ما زالت هذه المعتقدات موجودة بين المسلمين؛ لذلك وجبت النصيحة.

فمِن الناس مَن يتشاءم مِن البومة أو القطة السوداء أو بعض الأيام، ومنهم: مَن يتشاءم من يوم الأربعاء، وساعة صلاة الجمعة، ويسميها: "ساعة نحس!"، ومنهم: مَن يتشاءم من بعض الأرقام: كالشيعة -قبحهم الله- يتشاءمون من الرقم عشرة؛ لأنهم يبغضون العشرة المبشرين بالجنة.

ومنهم: مَن يتشاءم مِن شهر شوال وصفر فلا يتزوج فيهما، ومنهم من يتشاءم من يوم معين أو لون معين.

- ويقولون: إن آخر أربعاء من شهر صفر تنزل فيه آلاف البليات؛ فجعلوا له دعاءً وصلاة مخصوصتين.

- ومنهم مَن يجمع شرًّا على شر، فقبل أن يخرج من بيته يقرأ: "حظك اليوم"، وينظر إلى برجه: ماذا يقول له المنجم؟! إن قرأ شيئًا يحزنه لم يخرج من بيته ذلك اليوم، ويظل ينتظر الشر الذي يتوقعه.

ومنهم من يقول: عيني تطرف اليوم! ينتظر شرًّا يصيبه!

نعوذ بالله من حال هؤلاء!

هل هناك أناس حياتهم بهذه الصورة لا يتوقعون إلا الشر؟ إى والله! ومَن تطير فلا يضر إلا نفسه؛ فتجده حزينًا مكتئبًا، غير حسن الظن بالله! لا يا عباد الله! توقعوا الخير، وتفاءلوا به تجدوه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ) قِيلَ: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: (الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ) (متفق عليه).

ففسره بالكلمة الطيبة يسمعها الرجل، كمَن أراد سفرًا؛ فسمع رجلاً ينادي على آخر: يا سالم. فيتفاءل أن يسلم في سفره، لكن لا يتعمد مَن ينادي عليه بذلك.

تفاءل دائمًا؛ وظن بربك الخير، وأنه سيحفظك ويرعاك كما في الحديث القدسي: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).

- وإذا وقع في نفسه شيء مِن ذلك؛ فليذهبه بالتوكل، ولا يرده عن حاجته، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ وَمَا مِنَّا إِلَّا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ" (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

ما كفارة من وقع في شيء من ذلك؟

عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: (أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفى حديث آخر: (فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ) (رواه أبو داود، وصححه الإمام النووي في رياض الصالحين).

هذا هو الإيمان بالقدر، فيرغب في رحمة الله، ويتوكل على الله، ويفوض أمره إلى الله؛ أما أن يعيش حزينًا كئيبًا محبطًا، يتوقع الشر من يوم أو شهر، ونحو ذلك! فهذا محرم، ومن الشرك.

ومنهم مَن يقول: "صفر الخير" مقابلة منه للبدعة ببدعة، وهذا أيضًا خطأ؛ فالأزمنة لا دخل لها في التأثير، بل الله -تعالى- الذي يقدِّر فيها الخير والشر. والله أعلم.