كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد أثار حادثُ الاعتداء الإجرامي على المسجدين في نيوزيلاندا جملةً مِن الذكريات لتاريخنا مع الغرب قديمًا وحديثًا؛ فرَضَها التسجيل التاريخي الذي كَتَبه المجرمُ الكافر الأثيم على رشاشاته.
فنظرةٌ على التاريخ يتضح بها جليًّا أنَّ كلَّ حضارةٍ قوية كان لها دولة سَعَتْ إلى فَرضِ حضارتها وقِيَامِها على مَن حولها، ولم تتوقف قط عند حدود بلد المنشأ؛ فالفراعنة امتدوا إلى إفريقيا والصومال -بلاد "بونت"- وغيرها، والإغريق احتَلُّوا شمال إفريقيا وغرب آسيا، وأوسع مِن ذلك، وبَنوا مُدُنًا ما زالت قائمة إلى الآن كالإسكندرية، والرومان كَوَّنوا إمبراطورية واسعة الأطراف كانت مصر يومًا مِن الأيام تحت احتلالها، وكذا شمال إفريقيا وأجزاء كبيرة مِن آسيا وأوروبا، والفُرس وصَلَت إمبراطوريتهم إلى القُدس ومصر، وامتدت شرقًا كذلك.
ولما جاء دَور المسلمين وحضارة الإسلام ذات القِيَم الربانية السامية -التي لم توجد أمة أو حضارة التزمت بها غيرهم- لم يكونوا يَقتُلون في فتوحاتهم امرأةً ولا وليدًا ولا عَسيفًا -أي: أجيرًا-؛ امتثالًا لأمر نبيِّهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا ) (رواه مسلم)، وكذا لم يَقتلوا "المَدَنيين" كما يُسَمّون الآن، ولم يَقتلوا الرهبان في الصوامع ولا الشيوخ، ولا الزَّمْنَى ولا المَرضى؛ امتثالًا لأمر خليفة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك، ولم يُكرِهوا الناس على الدخول في الإسلام، ولا مَارَسوا اضطهادًا دينيًّا ولا مَحاكم تفتيش؛ لأن كتابهم العظيم يقول لهم: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256).
وطالَما بَذَل المُخالِفون في الدِّين الجِزية -وهي ضريبة على القادرين الذُّكور الأحرار أَقَلّ بكثيرٍ مِن كل الضرائب التي كانت تُفرض في ذلك الزمان-، فقد أَمنوا على أنفسهم ودينهم وأولادهم وأعمالهم وأموالهم وبيوتهم؛ مما جَعَل عامة الشعوب تختارُ الدخولَ طواعيةً في الإسلام، واختاروا لُغَةَ المسلمين العربية وثقافتَهم، ومَن رَفَض فقد بقوا آمنين على دينهم، وبقاياهم إلى اليوم في كل البلاد تشهد أن أجدادَهم لم يُكرِههم المسلمون على الدخول في الإسلام؛ وإلا لما وُجِد أبناؤهم اليوم على دينِهم:
فالأقباط في مصر والشام والعراق، والصابئة في العراق، والمجوس في فارس، والهندوس في الهند، والبوذيون فيما حولها مِن شبه القارة الهندية، وكُلُّها كانت ممالك إسلامية افتتحها المسلمون وحكموها قرونًا طويلة، وكانت تحت سلطانهم.
لَم يَكن قتالُ المسلمين أبدًا قتالَ تدميرٍ وإبادةٍ؛ بَل كان بِنَوعَيه -جهاد الدفع وجهاد الطلب- لتحرير البشرية من نير العبودية للعباد، كما قال ربعي بن عامر لِرُستم قائد الفرس: "اللَّهُ ابْتَعَثَنَا، وَاللَّهُ جَاءَ بِنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الإِسْلامِ" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
ولم تكن مُعامَلَتُهم للشعوب المغلوبة والأسرى والعبيد كما كان أسلافُهم مِن الفراعنة واليونان والرومان -يَسومونهم سوء العذاب؛ يذبحون أبناءهم ويَسْتَحيون نساءهم-؛ بل كانوا أكرم الناس وأحسنهم معاملة؛ امتثالًا لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الرقيق: (إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ؛ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ) (رواه البخاري)، وقوله: (مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ) (رواه مسلم)، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ) (رواه مسلم)؛ فما سَمَحُوا أبدًا بالتعذيب في بلادهم، ولو لغير المسلمين مِن الشعوب المغلوبة؛ ولو كانوا يُعَذَّبون في حَقٍّ عليهم كالجزية، ولو كان التعذيب مجرد أن يُوقفوا في الشمس ويوضع الزيت على رؤوسهم؛ فما سَكَت الصحابةُ على مِثل ذلك، ومَا قَبِلوه حتى أُطلق سراحهم!
بل عَامَلوا مماليكهم مثل مُعَامَلَة أولادِهم؛ فقد أقاد النعمان مملوكَه مِن ولده في لطمةٍ لَطَمَها له، وعلَّموا الأممَ كلَّها كلَّ العلوم النافعة؛ فعندنا نافع مَولى ابن عمر مُقَدَّم في علم الإسناد على ابنه سالم بن عبد الله بن عمر -الفقيه العالِم-، وإمامُ المسلمين مالك بن أنس شيخُه نافع مولى ابن عمر في الرواية في السلسلة الذهبية -مالك عن نافع عن ابن عمر-، وسعيد بن جُبير مَولى ابن عباس قال عنه الإمام أحمد: "قَتَل الحجاجُ سعيدَ بن جُبير وما على ظهر الأرض أحدٌ إلا ويَحتاج إلى علمه"!؛ فمن علَّم سعيدًا إلا سيدُه ابن عباس؟! والحَسَنُ البصري -إمام أهل الزهد والعلم- مَولى، وابنُ سيرين مَولى، وابن أبْزَى مَولى، ولو عددنا أعدادَهم لجاءت مُجَلَّدات.
فهل نُقارِن هذا بما فَعَلَه الغربُ لما جاء دورُه في القوة والغلبة، واحتلوا إفريقيا وآسيا والأميركتين؟!
وكيف تَعَامَل الرجلُ الأوروبي الأبيض مع المُخالِفين؟!
وها هي الشعوب إلى اليوم ترزح تحت آثار الاحتلال الغربي الذي نهب ثرواتهم واستذل شعوبهم، وسفك من الدماء ما لم تَرَ البشريةُ مِثلَه بعد اختراع الأسلحة الحديثة الفتاكة، والقنابل النووية، وها هم السُّودُ في الأمريكتين يُعَانُون إلى اليوم من التمييز العنصري مع ما سبق من تغيير أديان أجدادِهم وثقافتهم بالإكراه والتعذيب والقتل، وها هي بقايا الهنود الحمر وتاريخهم وآثارهم تشهد بجرائم الرجل الأبيض، وها هو تاريخ الحربين العالميتين: الأولى والثانية يشهد بِكَمِّ القتل الهائل -نحو المائة مليون إنسان!- في سنواتٍ معدودةٍ؛ فضلًا عن التدمير والاغتصاب والتخريب للبلاد بأَسرها، وحِرمان الأُمَم مِن وسائل التقدم لتظل سُوقًا لمنتجاتهم، وها هي جرائمهم في "أفغانستان والعراق وسوريا" شاهدة أمام أعيننا لم تندمل جِراحُها بَعد.
مع أن الحضارة الغربية خالية مِن عقيدةٍ صحيحةٍ أو أخلاق سَوِيَّة أو قِيَمٍ سامية بميزان شرائع الأنبياء:
- فهي في العقيدة في الوجود وأصل نشأته ووجود الله -سبحانه وتعالى-: "لا أدرية"، أو مُلْحِدة في عامة توجهاتها.
- وفي الإنسان والخير والشر عنده حائرة بين الجَبر والاختيار؛ إما أن تختار الاختيار المطلق أو الجبر المطلق؛ لتُبَرِّر الجرائم والفواحش بأنها "جينات" لا يستطيع أصحابُها أن يمتنعوا من الحرام.
- مع التحلل التام من كل الشرائع -إلا الأهواء-
- وفي الأخلاق هم يستبيحون الفواحش والشذوذ وقهر الضعفاء والسخرية منهم وظُلم جميع الشعوب.
- أما العبادة فليست عندهم أصلًا كحضارة؛ حتى بقايا النصرانية التي عند بعضهم في المناسبات ليست إلا صورًا مِن الطقوس الخُرافية التي لا مَعنى لها بعد فقدان الرهبانية عندهم حقيقتها، وانتشار الاغتصاب والشذوذ في أديرتهم وكنائسهم!
ووالله إن المقارَنة لَتأتي على كلِّ ما عند هذه الحضارة الغاشِمة التي هي مِن البلاء الذي قَدَّرَهُ اللهُ على البشرية؛ عقوبةً لها على ذنوبِها ومُخَالَفَتِها شرع الله، وإعراضها عن دين الإسلام.
أَفَبَعدَ هذا كله لا يزال فينا مَن يَقبل أن يتنازل عن ثوابت الدين الشامخ مِن أجل إرضاء الغرب، ويحاول أن يعلي قِيَمَه على قِيَم الحضارة الإسلامية السامية؟!
أيوجد مِن شبابنا مَن يترك عبادته وعقيدته وخُلُقَه وهيئته تَشَبُّهًا بالغرب الماجن الفاجر؟!
ألا يزال يوجد مَن يرضى بتنحية الشريعة الإسلامية لِصَالِح قوانين الغرب الكافر ويَضَع العراقيل أمام العودة التي تشتاق إليها شعوبُنا لشريعتنا؟!
ألا يزال إِعلَامُنا وتعليمُنا فيه رُوح الانهزام الحضاري غير المسوغ والهجوم الشَّرِس على التراث العظيم الذي نَقَلَهُ لنا سلفُنا الصالح مِن الكتاب والسُّنة بما لا يوجد عند غيرنا مِن الأمم عبر الزمان كله؟!
ألا يزال فينا مَن يَطعن في البُخَارِيِّ ومُسْلِم والأئمة الأربعة وفِقهِهم، بل في الصحابة والتابعين؟!
هل يوجد فينا من يُدَمِّرنا بالجهل والخرافة والمذاهب الإلحادية التي انتسبت زورًا للمسلمين -كالاتحادية والحلولية، وأرباب الخرافة والغُلُوِّ في الأموات بدعوى الكرامات- ومُخَالَفَة صريح الكتاب والسُّنة؛ لأن الغرب يَرغب في نشر هذه الثقافات والبدع؟!
هل آن لنا أن نفيق؟!