الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 02 أبريل 2017 - 5 رجب 1438هـ

هل الإمام النووي -رحمه الله- ليس مِن أهل السُّنة والجماعة؟!

السؤال:

ذكر بعض الناس أن الإمام النووي كان أشعري العقيدة وليس مِن أهل السُّنة والجماعة، وفي ناحية أخرى يدافع البعض عن الإمام النووي بأنه وإن وافق الاشاعرة في بعض أقوالهم إلا أنه مِن جملة أهل السُّنة والجماعة، بدليل أنه خالف الأشاعرة في مسائل هامة مِن أصولهم تجعله ليس أشعريًّا كقوله في الإيمان بأنه قول وعمل، يزيد وينقص، وكذلك قوله في تصديق القلب، وقوله في القضاء والقدر، ومسألة أول واجب التي خالف فيها الأشاعرة، لكني سمعتُ بعض الشيوخ قال في الإمام النووي -رحمه الله-: "النووي أشعري بكل ما تحويه هذه الكلمة في جميع أبواب العقيدة!". فما الراجح في هذه المسألة؟  

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلا يصح أن يُقال: إن النووي -رحمه الله- أشعري في كل أبواب العقيدة! فإنه في مسائل الإيمان يقول: "إن الإيمان قول وعمل" نصًّا صريحًا، وفي مسائل القدر يقول بقول أهل السُّنة في إثبات خلق أفعال العباد، ووقوعها بمشيئتهم، وفي مسائل الصفات يذكر القولين: قول السلف وقول الخلف، ولا يفصِّل في معنى التفويض حتى يُنسب إلى المفوضة!

وقد ذكرنا الموقف مِن العلماء الذين قالوا ببعض البدع في كتاب "فقه الخلاف" فنحيلك عليه، ومنه: "لا شك أن أهل العلم وطلابه عند مطالعتهم لكثير مِن كتب بعض العلماء المتقدمين وفتاويهم يصطدمون بأقوال مِن التي سبق عَدُّها في الخلاف غير السائغ، سواءٌ أكان في مسائل الاعتقاد كمسألة التأويل في الأسماء والصفات التي يقول بها خلائق مِن أهل العلم المنتسبين إلى الأئمة الأربعة في المذاهب الفقهية، وإلى الأشعري في بعض أو كثير مِن المسائل الاعتقادية: كالإمام النووي، وابن حجر -رحمهما الله-، وكمسألة فناء النار ومخلوقات لا أول لها التي تُنسب إلى ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله- وانتصرا لها في مصنفاتٍ عدة، أو في المسائل الفقهية كالقول بجواز ربا الفضل ونكاح المتعة الثابتين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ويُروى رجوعه عنهما، وغير ذلك مما سبق... فكيف يُعامل هؤلاء العلماء وإن قالوا بما ندين الله بأنه بدعة ضلالة، أو خطأ وباطل قطعًا؟

والجواب: أن أهل السُّنة لا يختلفون في عدم ذم مَن اجتهد فأخطأ -كائنـًا مَن كان خطؤه- ممن هو معروف بالخير والصلاح كالصحابة -رضي الله عنهم- والأئمة الأعلام كالأربعة، وأئمة أهل الحديث ومَن سار على نهجهم، ولهم في الأمة الذكر الجميل والثناء الحسن، ولا يستوي عندهم مَن قضى عمره في العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إلى الحق، ونصرة السُّنة وأهلها، وبذل النفوس والأوقات والأموال في سبيل الله، وتحمَّل المشاق في سبيل الله؛ لا يستوي هؤلاء ومَن قضى عمره في الصد عن سبيل الله، ومحاربة السُّنة، ونشر البدعة، والانتداب لنصرة الباطل، والتعصب الممقوت عليه، كالجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وبشر المريسي، وغيلان القدري، فهؤلاء عُرفوا بالبدعة وكونهم مِن رؤوسها ودعاتها، ولم يكن لهم في العلم حظ ونصيب، بل ما حصَّلوا منه ما يؤهلهم لكونهم طلابه؛ لذا كان وقوعهم في البدعة مِن جراء تقصيرهم، ولما ناظرهم العلماء وبينوا لهم الحق كان الإعراض مِن فعلهم سبب ترؤّسِهم بغير استحقاق، وتصدرهم بغير تأهيل، فكيف يستوون مع مَن كانت جل أقوالهم وأعمالهم مطابقة للحق؟

فنقول في حق هؤلاء العلماء: (إذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتَيْنِ لم يَحْمِلْ الخَبَثَ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، ولا يعني ذلك أن نصحح الأقوال الباطلة، أو نسكت عن البدع المخالفة للحق، بل كما قال ابن القيم -رحمه الله- في حق شيخه الهروي: "وشيخ الإسلام حبيبٌ إلى نفوسنا، ولكن الحقَ أحبُّ إلينا منه"، فلابد مِن النظرة المتوازنة التي ترى الحسنات والسيئات معـًا، وتَزِنُ كل الأقوال بميزان الشريعة، وتزنُ أصحابها بما عندهم مِن الخير والشر معـًا.

وقد سبق قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأهل السُّنة متَّفقون على أن المعروفين بالخير كالصحابة المعروفين وغيرهم مِن أهل الجمل وصفين مِن الجانبين لا يُفسَّق أحد منهم، فضلاً عن أن يُكفَّر" (الفتاوى12/ 495).

وقال أيضًا -رحمه الله-: "وأيضًا فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير مِن هذه المسائل، واتفقوا على عدم التكفير بذلك، مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف، وكذلك لبعضهم في قتال بعض ولعنِ بعض وإطلاق تكفير بعضٍ أقوال معروفة، وكان القاضي شريح ينكر قراءة مَن قرأ: "بَلْ عَجِبْتُ" ويقول عن الله : لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه كلمه -أو علمه-، كان عبد الله أفقه منه، وكان يقول: (بَلْ عَجِبْتُ) (الصافات:12).

فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسُّنة، واتفقت الأمة على أنه إمام مِن الأئمة.

وكذلك أنكر بعض السلف بعض حروف القرآن، مثل إنكار بعضهم قوله: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) (الرعد:23)، وقال: إنما هي: "أَوَ لمْ يتَيَقنِ الذين آمنوا"، وإنكار الآخر قراءة قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) (الإسراء:23)، وقال: إنما هي: "ووصى ربك"، وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سور القنوت، وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفـَّروا، وإن كان يكفر بذلك مَن قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر" (اهـ الفتاوى 12/ 492 -493).

فها هو شريح ينكر صفة مِن صفات الله، ويجمع أهل العلم على إمامته، فلا يُبدّع ولا يُفسّق ولا يُكفّر، وإنكار كتابة المعوذتين في المصحف مشهور عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، ولا خلاف في عدالة الصحابة أجمعين، ولا يجرؤ على اتهام مثل ابن مسعود وابن عباس بشيء إلا ضال مجرم، رغم الجزم والقطع بخطأ القول المنسوب إليهم، بل قد يصل الأمر إلى ما هو أشد مِن ذلك فإنه مَن ينكر اليوم: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا)، و(وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) فإنه يكفر؛ لتواتر النقل بها في هذه الأعصار، وصارت معلومة مِن الدين بالضرورة.

ومِن هنا فإن موقفنا مِن العلماء أمثال النووي وابن حجر وغيرهما ممن قال بالتأويل هو موقفنا مِن ابن القيم في الانتصار للقول بفناء النار، وهو نفس الموقف مِن شيخ الإسلام ابن تيمية في القول بحوادث لا أول لها -عند مَن يفسرها بمخلوقاتٍ لا أول لها-، وهو نفس الموقف تجاه علماء السلف الأفاضل الذين وقعت منهم هذه الزلات: نعرف لهم فضلهم ومنزلتهم، ونترحم ونترضى عنهم؛ للخير العظيم الذي اشتهروا به وعاشوا وماتوا عليه، ونعرف خطأ هذه الأقوال وبدعيتها دون أن يستلزم ذلك تبديع المعين.

فالمسألة في حقهم لم تكن ظاهرة، فضلاً أن تكون متواترة أو معلومة مِن الدين بالضرورة، بل ظنوا أن لأهل السُّنة قولين، رجَّحوا ما ظهر لهم، ولم يطَّلعوا على النص أو الإجماع، وهذا الموقف هو الذين ندين لله به نحو العلماء المعاصرين الأفاضل الأجلاء الذين قالوا بأقوال ذكرناها ضمن الخلاف غير السائغ مما قد يستغربه البعض، ويقول: كيف لا يكون سائغـًا وقد قال به فلان وفلان؟!

وقد بيَّنَّا مِن قبْل أن الضابط هو مخالفة النص أو الإجماع، فإذا أثبتنا ذلك لم يكن لأحدٍ أن يقول: كيف وفلان يخالف؟ ومع ذلك نعرف حرمة هؤلاء العلماء وفضلهم، ولا نبيح لأحدٍ أن يتجرأ عليهم أو يقدح فيهم كما يفعل بعض مَن لا يفقه ولا يعرف أدب أهل العلم في الاختلاف.

فعلى سبيل المثال: لا يُعَدُّ عدُّنا مسألة الذهب المحلق خلافـًا غير سائغ قدحـًا في الشيخ الألباني، ولا مسألة إنكار العذر بعدم البلاغ في مسائل الأصول والعقائد -خلافـًا لأهل السنة- قدحـًا في بعض علماء الدعوة الوهابية، وغير ذلك مِن الأمثلة التي حين يصدر مثلها عن غيرهم ممن لم ليسوا مِن أهل العلم والالتزام بالسُّنة تجد منا الإنكار والتعنيف والتبديع مراعاة لما ذكرناه مِن طريقة أهل السُّنة التي سبق بيانها" (انتهى مِن فقه الخلاف بين المسلمين).