الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 26 أبريل 2016 - 19 رجب 1437هـ

ردًّا على الدكتور "خالد منتصر"... العالمانية مِن تأويل النص إلى تحريف الطب!

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد تداول النشطاء مقطع فيديو لجزءٍ مِن محاضرة للدكتور "خالد منتصر" انتقد فيها توظيف الطب لترغيب الناس في أداء طقوس دينية معتبرًا أن هذا الأمر يتم بمغالطاتٍ طبية.

ودلل على ذلك بأمور، منها -مِن وجهة نظره-:

1- احتواء ماء "زمزم" على معادن ضارة! واستشهد ببحث لباحثٍ سعودي لم يذكر اسمه "وذكر اسمه لاحقًا في تصريحات لليوم السابع هو الدكتور فيصل شاهين".

2- الصوم ليس مفيدًا، بل هو مضر للكلى! للامتناع عن الشرب 18 ساعة، وأخلاق الصائمين ونرفزتهم تؤكد أن الصوم لا علاقة له مطلقًا بتحسين الصحة!

3- فيما يتعلق بالحكمة مِن تحريم الخنزير ادعى الآتي:

- أن البقر فيه دودة شريطية كالتي في الخنزير!

- أن الطيور في الريف المصري تأكل القاذورات؛ فلماذا لا تحرَّم؟!

- أن الخنزير الأوروبي يعيش في أماكن أفضل مِن شقق الخمس نجوم عندنا!

- وأضاف معلومة شخصية، وهي: أن أول "حصالة" في حياته كانت على شكل "خنزير!".

ثم إنه أدلى بتصريحات "لليوم السابع" جاء فيها قوله:

- "هل نحن نصوم لأن الصيام فريضة، أم لأن الصيام مفيد للكبد والكلى؟! إذا سوَّقنا المفهوم الثاني سيصبح خطرًا على الدين؛ لأن ممكن عالم يقول إنه في اليوم الحار 18 ساعة بدون مياه لن تستفيد الكلى مثلما تقولون، ما الموقف حينها؟! إذًا نحن نضر الدين ولا ننفعه".

- "بالنسبة للحم الخنزير: هل نحن لا نأكله لأن ديننا أمرنا بذلك، أم لأن فيه دودة "التنيا سوليم"؟! لو قلنا: إنها الثانية، واعتمدنا على ذلك؛ سيخرج علينا مَن يقول: طب والبقر ما عندهم "التنيا ساجيناتا"، هنا سيتشكك المتدين في دينه، والسبب مَن رسَّخ هذه الفكرة في ذهنه، وليس السبب الدين نفسه".

- "بالنسبة لماء زمزم هو رمز ديني، لكن تحويله لشفاء مِن كل شيء خطر على الدين مِن ناحية أنه ماذا لو خرج بحث مثل بحث د."فيصل شاهين" السعودي يحذر فيه مرضى الكلى مِن تناول ماء زمزم لوجود بعض المعادن المضرة بالكلى؟! وهل السعوديون الذين يسكنون بقرب زمزم ويشربون منه أضعافًا مضاعفه لا يمرضون! يكفي أن نأخذ الرمز الديني وبلاش نربطه بالطب ونحوله لعلاج لكل شيء، الربط هنا خطير على الدين أولًا، وعلى العلم ثانيًا!".

ثم خرج في برنامج "بوضوح"، وردد كثيرًا مما قاله، وزاد على هذا إنكاره لوجود الإعجاز العلمي في القرآن!

وإليك مناقشة وردٌّ على بعض ما قاله:

1- الفوائد الدنيوية للعبادات بيْن الإفراط والتفريط:

- في معرض دفاعه عن نفسه بعد الآراء الصادمة التي ذكرها في ندوته، قال "خالد منتصر": "إنه يريد أن يفعل المسلمون العبادة مِن أجل العبادة"، ولو كانت هذه هي قضية الدكتور "خالد منتصر"؛ لهان الخطب، ولعد في نطاق "المتشددين" في تحقيق الإخلاص في العبادة!

- ولكنه أضاف إلى هذا: ادعاء أن الله افترض علينا عباداتٍ تضر بأبداننا وصحتنا، ومع هذا فهذه الرؤية التي انتحلها "خالد منتصر" تبدو "متشددة" في مقابل دعوات يتبناها البعض تكاد تحصر فوائد العبادات في فوائدها الدنيوية! مع أن الأصل أن المسلم يفعلها طالبًا فائدتها الأخروية؛ ففي الصيام الذي كان أحد أهم محاور "خالد منتصر" قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه). أي: إيمانًا وتصديقًا بفرضيته وبوعد الله بالثواب عليه، واحتسابًا لذلك الثواب.

- ومع هذا فقد جاء في الشرع ذكر بعض الفوائد الدنيوية للطاعات؛ فأخبر -تعالى- على لسان نوح -عليه السلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (نوح:10-12)، وهذا في شأن نعم يقدِّر الله حصولها لمن أطاعه، وكذلك لو كانت الطاعة ذاتها تفيد في بعض الأمور الدنيوية، ومع هذا فلم يعوِّل الشرع على هذا تعويلاً كبيرًا.

2- الحِكَم الدنيوية للتشريع في المعاملات بيْن الإفراط والتفريط:

كما تبنى "خالد منتصر" أعلى درجات التشدد في باب "إخلاص النية في العبادة!"؛ تبنى أيضًا أمرًا أبعد ما يكون عن منهجه الذي يدعو دائمًا إليه، وهو: "إعمال العقل ولو في مصادمة النص!"؛ فدافع عن كلامه في شأن "الخنزير" بأن المسلم يجتنبه؛ لأنه محرم وفقط، وليس مِن أجل الضرر!

والأمر هنا في شأن "المعاملات" يختلف عن "العبادات"؛ حيث يذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأصل في الأحكام التعليل.

وبناءً عليه فإذا جاء الشرع بتحريم "لحم الخنزير"؛ فإننا نأخذ مِن ذلك أمورًا:

- وجوب الانتهاء التام عن ذلك؛ طاعة لله علمنا العلة أم لم نعلمها.

- الإيمان المجمل بأنه لا بد مِن علة لهذا الحكم، فالله هو الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء في مواضعها.

- الإيمان بأن العلة لجامعة لباب المنهيات هي ما وردت في قوله -تعالى- في صفة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (الأعراف:157).

ثم ما زاده بيانًا بقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) (البقرة: 219)، ومِن ذلك نأخذ أن كلَّ محرم؛ فهو إما لأنه ضرر محض، وإما ضرره أكبر مِن نفعه.

- ثم قد يكون هناك باب للاجتهاد والنظر الدنيوي، والتأمل في الأضرار التي تلحق مَن خالف شرع الله.

ومِن هنا ندرك أن:

3- الإعجاز العلمي في القرآن بيْن الإفراط والتفريط:

قال الله -تعالى-: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53)، ومِن هذا الباب وجد العلماء أن ثمة أمورًا وردت في الكتاب والسنة آمن بها المسلمون على مر العصور على أنها غيب مطلق ثم صارت في زماننا شهادة، واصطلح العلماء على تسمية هذا الباب بـ"الإعجاز العلمي في القرآن".

ومِن أبرز أمثلته: ما ورد في القرآن مِن "مراحل تكوين الجنين"، والتي وردت في قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:12-14).

ولا ندري ماذا يقول د."خالد منتصر" على هذا المثال بالذات؟! وهل يرى فيه إعجازًا: أي أمرًا غير داخل في قدرة البشر، وبالتالي يستدل به أن هذا الكلام مِن عند الله أم لا؟!

ولكن يجب أيضًا أن نعلـِّق على موقف بعض المزايدين على قضية الإعجاز العلمي في القرآن: فهم يفسِّرون القرآن على ضوء افتراضات علمية لم ترقَ بعد إلى درجة الحقيقة العلمية أو يتحدثون عن حقائق علمية، ولكن يحاولون انتزاعها مِن آيات بتكلف يفسد معنى الآية، بل ربما يتوهم مَن يسمع كلامهم أن القرآن كتاب في الفيزياء، بل في كل العلوم التجريبية! ولكن الصحيح أن الله جعل هذه الأمثلة آياتٍ متجددة، وآياتٍ في الأنفس والآفاق تصدِّق الآيات القرآنية المنزَّلة على محمد -صلى الله عليه وسلم-.

4- الطب النبوي بين الإفراط والتفريط:

وكفرع على هذه الأبواب السابقة انقسم الناس في شأن ما ورد في السنة النبوية مِن إرشادات طبية؛ فتعامل معها البعض على ما هي عليه مِن أن ما فيها مِن موافقة علوم الطب هو أحد أدلة صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعللوا عناية الوحي بشأن الطب خاصة مِن أن طب القلوب والأبدان متقاربان، وأن الطاعات لن يستطيع القيام بها إلا صاحب البدن السليم؛ فأرشد الشرع إلى فوائد طبية عامة، منها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ؛ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

كما أرشد الشرع إلى أبواب مِن التداوي: كالتداوي بمنتجات النحل، والحجامة، والحبة السوداء، والعجيب أن شكك د."خالد منتصر" في هذه الأمور بأن الأحاديث التي تحدثت عنها ربما تكون ضعيفة! مع أن منها ما هو مذكور في القرآن في قوله -تعالى- عن عسل النحل: (فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ) (النحل:69).

والناس في هذا الباب -أيضًا- طرفان ووسط: فطرف يظن هذا الأمر علاجًا مِن كل الأمراض، ويخلط بيْن الجزء الثابت بالوحي، وهو أصل إثبات أن هذا الباب فيه وسيلة للعلاج، وبين تجارب الأطباء؛ فضلاً عن المعالجين مِن غير الأطباء، وفي الجانب الآخر تجد مَن يتعامل مع هذه النصوص بالتشكيك فيها وعدم الثقة بما دلت عليه.

فالحجامة -مثلاً-: قد تجد مِن الفريق الأول مَن لا يقبل أن تجادله في مدى فائدتها في مرض معين أو في كونها هي الأنفع والأجدى في مرض معين، وعلى الجانب الآخر: تجد مَن يشكك فيها ويسخر منها في ذات الوقت الذي يحترم فيه العلاج بـ"الإبر الصينية" رغم أنها هي والحجامة مِن باب واحد! وإن كانت الحجامة تفوقها مِن حيث أثرها في إزالة الاحتقانات الموضعية في المفاصل وغيرها.

"خالد منتصر" ومصارعة "طواحين الهواء!":

على الرغم مِن وجود مَن يغالي في شأن ما يُعرف بالطب النبوي فإنه لم يحدث منذ زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا أن دعا أحد إلى إغلاق كل أبواب التداوي والاقتصار على حبة البركة أو الحجامة أو ماء زمزم أو غيرها، فضلاً عن إغلاق كليات الطب وهو الهاجس الذي دائمًا ما يحاربه د."خالد منتصر".

وحتى الأحاديث التي أفادت شمول شيء مِن هذا مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فِي الحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، إِلا السَّامَ) (متفق عليه)، فالتفسير العلمي الصحيح لذلك أنها ترفع كفاءة جهاز المناعة؛ مما يساعد على شفاء كل الأمراض، ولكن قائل ذلك هو الذي قال -صلى الله عليه وسلم- لما سأله السائل: أَلا نَتَدَاوَى؟ قَالَ: (نَعَمْ، يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وعن رجل من الأنصار قال: عَادَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً بِهِ جُرْحٌ, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ادْعُوا لَهُ طَبِيبَ بَنِي فُلانٍ), فَدَعَوْهُ فَجَاءَ, فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ, وَيُغْنِي الدَّوَاءُ شَيْئًا؟ فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللهِ, وَهَلْ أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دَاءٍ فِي الأَرْضِ, إِلا جَعَلَ لَهُ شِفَاءً؟) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

على أن هذا الكلام شائع في كلام الأطباء القدماء منهم والمعاصرين؛ فمنهم مَن يقول: "تفاحة في اليوم تغنيك عن زيارة الطبيب"، ومنهم مَن يتكلم عن العشب الفلاني الذي يمثـِّل صيدلية متكاملة إلى آخره، وبالطبع مقصود كل هؤلاء أثر هذه الفواكه أو الأعشاب في رفع جهاز المناعة أو أثره الإيجابي على كل أجهزة الجسم.

- (صُومُوا تَصِحُّوا): لم يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن ثبت ما هو أعم من ذلك، والكثير من الوعاظ يتساهلون في أن ينسبوا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "صوموا تصِحُّوا"، وهو حديث لا تصح نسبته إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومِن المفيد هنا أن نشيد بجهود علماء الحديث الذين لم يقبلوا أن ينسبوا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- قولاً إلا أن يأتي مِن طريق الرواة الثقات، حتى وإن كان القول ذاته صحيح المعنى، والذي ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ؛ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)، وهذا يتوافق تمامًا مع كلام أهل الطب، وإن كان بعضهم -ومِن باب "التغابي!"- يثير شبهات حول أن النـَّفس لا يتم مِن المعدة وهو أمر لم يتعرض له الحديث لا مِن قريب ولا مِن بعيد، وإنما نصَّ على أن إبقاء جزء مِن المعدة خاليًا يساعد على التنفس الجيد، وهذا حاصل.

المهم أننا نأخذ مِن هذا أهمية تنظيم كميات الطعام، وخطورة اعتياد امتلاء المعدة بالطعام، وغني عن الذكر أن إراحة أي آلة تعمل باستمرار مثل الجهاز الهضمي وما يرتبط به من أجهزة لا يحتاج إلى عناء كبير لنعرف أنه مفيد لهذه الأجهزة؛ ولذلك كان مِن وسائل العلاج الطبية: "الصوم"، ومعناه عند الأطباء: "الإمساك التام عن الطعام مدة تصل إلى أسبوعين أو أكثر مع الإكثار مِن شرب الماء"، وهذا النوع له فوائده الطبية، وله في المقابل أضراره؛ حيث يَحرِم الجسم لفترة طويلة مِن البروتينات التي تجدد خلاياه، كما أنه يحرم الجسم مِن كثير مِن الأملاح النافعة؛ لا سيما تلك التي تفرز في البول كالبوتاسيوم، وإفرازها على مدار أسبوع أو أكثر دون تعويض لها يصيب الجسم بالكسل والخمول، وعمومًا فإن الامتناع عن الطعام مطلقًا لفترة طويلة أو الامتناع عن أنواع حيوية منه؛ له فوائده، ولكن له في ذات الوقت أضراره البالغة.

خطورة عدم شرب الماء والفرق بينه وبين الصيام:

إذا كان الإمساك عن الأكل، ولكن مع شرب الماء له فوائده وله أضراره، فإن تناول الإنسان لطعامه مع الإمساك عن شرب الماء أو حتى عدم شرب كمية الماء المناسبة، فإن هذا يعد ضررًا بالغًا، وذلك لأن الطعام يحتوي على أنواع مِن السموم والأملاح الزائدة عن حاجة الجسم والتي يرسلها الجسم بدوره إلى الكلى للتخلص منها عن طريق البول، وهذا في حاجة إلى الماء لتتم هذه العملية، وفي حالة عدم شرب الإنسان للكمية المناسبة من المياه يوميًّا، فإن هذا يجعله معرضًا للإصابة بحصوات الكلى وسائر أمراض الكلى، وأما إذا فعل هذا مريض الفشل الكلوي فربما يُعرِّض حياته نفسها للخطر، ومِن الواضح أن هذه الأخطار المترتبة على عدم شرب الماء هي لمن يأكل ولا يشرب، وليست لمن يمسك عن الاثنين معًا.

وهذا هو الفارق الذي لم ينتبه إليه "خالد منتصر" أو تغافل عنه.

وأما مَن يمسك عن الاثنين معًا؛ فلا يوجد سموم وأملاح تصل إلى الكلية أصلاً إلا عن طريق الأملاح المختزنة والماء المختزن، وقد هيَّأ الله الجسم وجعله قادرًا على إبقاء التوازن بيْن الأملاح المختزنة والماء المختزن، فيكون نتيجة هذا أن الصيام الشرعي يخلِّص الجسم مِن جزء مِن هذا المخزون غير المرغوب فيه، لا سيما وأن الصيام يكون مِن الفجر إلى المغرب بما يتراوح ما بين 12 ساعة إلى 18 ساعة، وبعدها يتمكَّن الصائم مِن تعويض ما فاته مِن الماء أو الغذاء، وهي فترة يحتملها الجسم بدون أدنى ضرر.

وبهذا تتبين أفضلية الصيام الشرعي على الصيام الطبي -حتى مِن الناحية الطبية- كما يتبيَّن الفرق بينه وبين الإخلال بمُعَدَّل شرب الماء المضر طبيًّا مع الأخذ في الاعتبار أن الفائدة الطبية في الصيام الشرعي فائدة عرضية، وأن الغرض الرئيسي منه تحقيق التقوى مِن الصبر ومراقبة الله -تعالى- والشعور بحاجة المحتاج، إلى آخر ذلك.

إباحة الفطر للمريض والحكمة الشرعية والطبية منه:

مِن المغالطات الواردة في كلام د."خالد منتصر" أنه يتكلم عن الاستثناء ويقلبه قاعدة، فعند الحديث عن ماء "زمزم" تحدث عن بحث طبي ينصح فئة خاصة مِن مرضى الفشل الكلوي بخطورة الشرب مِن ماء "زمزم"؛ لاحتوائه على نسبة عالية نسبيًّا مِن أملاح الصوديوم، وهذا في حالة ثبوته فغاية ما فيه أنه يجعل هؤلاء مستثنين مِن حكم استحباب الشرب مِن ماء "زمزم" إلى المنع مِن ذلك؛ وفقًا للقاعدة الشرعية الواردة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن مَن أفتى مَن في رأسه شجة بالاغتسال فمات: (قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني)، وماذا على "خالد منتصر" أو غيره لو شفوا شبهاتهم بالسؤال، وليكن إلى "علماء الأزهر"؛ ليجدوا عندهم الشفاء؟!

نقول هذا في حالة ثبوت ذلك الضرر؛ لأن كثيرًا مِن الباحثين ردوا على ذلك البحث بأن احتواء ماء "زمزم" على نسبة كبيرة مِن أملاح البوتاسيوم يُعادِل أملاح الصوديوم، ولا يجعل فيها أي ضرر حتى على مريض الفشل الكلوي.

وكذلك في حال الصيام، فإن مريض الفشل الكلوي أيضًا قد لا يناسبه أن يمسك عن الشرب طوال النهار؛ لأن كليته لن تكون قادرة على الاكتفاء بالماء المختزن في الخلايا حتى مع عدم الطعام، وهؤلاء قال الله -تعالى- في شأنهم: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة:184).

وقد جاءت كلمة (مَرِيضًا) نكرة؛ لتفيد الإطلاق، ويبقى دور الاجتهاد المنضبط لأهل العلم كالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب، ومَن قبلهم مِن الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومَن بعدهم مِن الأئمة الأعلام الذين ضبطوا لنا المرض المبيح للفطر أنه الذي فيه أحد وصفين:

الأول: أن يكون الصيام معه يسبب مشقة لم يكلـِّف الشرع بمثلها.

الثاني: الأمراض التي يتأخر برؤها إذا صام المصاب بها.

ومِن هنا نعلم: أن علماء الأمة قد فسَّروا الحكمة الشرعية على ضوء الحكمة الطبية أخذًا مِن القواعد العامة المذكورة في قوله -تعالى-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:78)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ).

لماذا لا نصوم طوال العام؟!

مارَسَ د."خالد منتصر" أسلوبًا غريبًا في المناقشة؛ فبعد تعميمه للاستثناء بذكر ضرر الصوم على المريض مغفِلاً تناول الشرع لهذه القضية، عاد وقال: "إنه إذا كان الصوم كذلك فلنغلق كليات الطب!" وهي شبهة سبق الجواب عليها.

وأضاف أخرى: "ولماذا لا نصوم طوال العام؟!".

وفي الواقع: إن مَن تحدثوا عن فوائد الصيام لا يلزمهم أن يجعلوه طوال العام؛ وإلا فالصوم الطبي -"الإمساك عن الطعام تمامًا مع شرب الماء كما سبق بيانه"- ينصحون به فترة تتراوح ما بيْن أسبوع وأسبوعين.

على أن الشرع أوجب الصيام شهرًا في العام، وأبقى العام كله محلاً للتطوع: كصيام ثلاثة أيام مِن كل شهر، أو الاثنين والخميس مِن كل أسبوع، وأعلى درجات التطوُّع أن يصوم يومًا ويفطر يومًا، وأما مواصلة الصوم وهو صوم الدهر؛ فمنهيٌّ عنه، وذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا يضر البدن، وذهب بعضهم إلى أن صيام الدهر سوف يتحول إلى عادة، ويرتب الإنسان موعد طعامه وشرابه على هذا؛ مما يفقد اليوم معنى المجاهدة، وهو المقصود الأصلي للصوم.

الصيام والنشاط، والصيام وحسن الأخلاق:

مما تعرض له "خالد منتصر" أن المشاهَد مِن حال الصائمين مِن الكسل والنرفزة يدل على عكس ما يقولون مِن أن الصيام مفيد للصحة!

وهذا الكلام في الواقع فيه ما فيه مِن المغالطات؛ إذ لا ينكِر أحدٌ أن الصيام فيه جهد ومشقة، وإذا رأيتَ صائمًا في رمضان فستجد أن أداءه البدني أقل مِن الطبيعي، ولا علاقة بهذا بأثر الصيام في الصحة؛ لأن مَن يتحدث عن أثر الصيام في الصحة يتحدث عن المدى الطويل، وليس عن الصيام ذاته.

- ومع هذا فلا يمكن أن يكون الصيام سببًا لحالة الكسل التي يكون عليها الناس في رمضان، وسبب الكسل معروف في إنهاك الصائم طوال الليل في اللهث وراء المسلسلات وبرامج المنوعات؛ فيترك الناس النوم ليس بغرض الصيام، ولكن بسبب هذه السهرات! والتي تزيد على هذا بالإرهاق النفسي ما بيْن إثارة الشهوات أو برامج المقالب، ومشاهد الرعب، والذنب ليس ذنب الصيام "ولا ذنب رمضان"، وإنما ذنب مَن شغله بما يتنافى معه تمامًا!

- وأما حالة الضيق والنرفزة: فهي ليست فرعًا على الامتناع عن الطعام والشراب، بل غالب مَن يصاب بهذه الأعراض هو مَن يكون شكواه مِن الامتناع عن الدخان وغيره؛ فيسبب الإقلاع المفاجئ عنه توترًا وفسادًا في المزاج، ومِن ثَمَّ لا ينبغي أن نأخذ هؤلاء كنموذج، ولكن علينا أن نساعدهم في أن يجعلوا مِن شهر رمضان فرصة للإقلاع عن التدخين، وعن كل العادات السيئة.

كما أن حسن الأخلاق في الصيام ليس نابعًا مِن أثر طبي بقدر ما هو نابع مِن أثر إيماني، وهو حرص الصائم على عدم إفساد صومه أو جرح حرمته، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) (متفق عليه).

ومِن المفيد هنا أن نعرِّج أيضًا على العادات السيئة في تناول الطعام في رمضان مما يمكن أن يفقد الصيام كل فوائده الطبية تقريبًا؛ فالصيام النبوي أن تفطر على تمرات وحسوات مِن ماء ثم تصلي المغرب، وفي هذا رفق بالجهاز الهضمي وإعطاؤه فرصة للنشاط ومعالجة آثار الأنسولين المتراكم بإعطائه التمر الحلو، وبعد ذلك قد يأتي الطعام والذي تبقى فيه القاعدة النبوية: (فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)، ثم يكون السحور قُبيل الفجر مع جرعات مِن ماء، وبعده صلاة الفجر في جماعة.

فأين هذا ممن يفطر على الدخان أو يُلقي في معدته كل صنوف الطعام، مع الإسراف في الحلوى طوال الليل، ثم يتناول السحور وينام على هذه الحال ولا يدرك الفجر؟! وكيف تراه إذا استيقظ لعمله؟!

فمَن وقع في هذا أو في شيء منه؛ فسوف يناله مِن الكسل، وضيق الخلق، والبعد عن الأجواء الإيمانية للشهر بقدر ما ابتعد عن الصيام النبوي.

ردود سريعة:

الخنزير بيْن الطب والدين:

الخنزير محرم؛ لأن الله حرمه، والله أخبرنا في صفة محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)، فعلِمنا أن كل محرم خبيث حتى "الخنزير الأوروبي" الذي يعيش في أماكن أفضل مِن شقق الخمس نجوم عندنا، وقد بحث علماء الطب وعلماء الحيوان فوجدوا أن الخنزير عائل لكثير مِن الأمراض؛ منها: الدودة الشريطية، وليست هذه وحدها حتى تبني حكمك عليها.

ومع هذا فنحن نعلم أن البقر يمرض بالدودة الشريطية وبغيرها، وفي هذه الحالة يحرم أكلها، ولكن احتمال إصابة الخنزير بها وبغيرها أعلى بكثير "والحكم للأغلب"، كما أن درجة خطورة الدودة الشريطية الخنزيرية أعلى بكثير جدًّا مِن الدودة الشريطية البقرية كما هو معلوم عند "أهل الطب".

وأما "جنون البقر" فناتج عن مخالفة الشرع، ووضع الدماء ولحوم الحيوانات غير مأكولة اللحم "وأخبثها الخنزير" في علف البقر.

- ومِن هنا تعلم أن الخمر، والخنزير مِن الخبائث؛ فهل تقبل أن تحضر لطفلك حصالة على شكل زجاجة خمر؟! بل هل تقبل أن تفعل ما هو أدنى بذلك بكثير مِن أن تُحضِر لطفلك حصالة على شكل "علبة سجائر"؟! أظن أن الإجابة بالقطع لا.

- ومِن ثَمَّ إذا صحَّت قصة أن والدك اشترى لك حصالة على شكل خنزير في صغرك فكان الواجب عليك أن تستغفر له لا أن تعتبره حجة على العالمين!

حكم الحيوانات الطاهرة إذا تغذت على النجاسة:

في سياق دفاعه عن "الخنزير!" استشهد "خالد منتصر" بالطيور التي تأكل القاذورات في الريف المصري! ونحب أن نقول له: إن هذه المسألة منصوص عليها في السُّنة، ويسمى هذا الطائر أو الحيوان بالجلالة، وورد فيها عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الجَلالَةِ فِي الإِبِلِ: أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا، أَوْ يُشْرَبَ مِنْ أَلْبَانِهَا" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

وفي فقه المسألة تفاصيل ملخصها:

- لا تأخذ الدابة الطاهرة حكم الجلالة حتى يكون معظم طعامها مِن النجاسة.

- اختلف العلماء: هل تحرم الجلالة أبدًا أم أنها قابلة للتطهير؟ والراجح أنها تقبل التطهير بإطعامها العلف الطاهر.

- اختلف القائلون بأنها تطهر وتحل بالعلف الطاهر في المدة التي تحل بعدها، فقال بعضهم: ثلاثة أيام، وقال البعض: أربعون يومًا. والظاهر أن المسألة مما يرجع فيها إلى أهل الخبرة "الطب البيطري"، وأنها تختلف باختلاف الحيوان.

وفي النهاية... أسأل الله أن أكون قد وُفـِّقتُ في الجواب على الشبهات التي تَعرَّض لها الدكتور "خالد منتصر" في كلامه، سائلاً الله أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.