وقفات مع حديث الشفاعة العظمى (1)
كتبه/ محمد سعيد الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنحن بين يدي مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة؛ وهو مشهدُ "الشفاعةِ العُظمى" لبدء الحساب، ونتناول هذا المشهد من خلال حديث الشفاعة الطويل، وسنقفُ -بإذن الله- وَقفَاتٍ يسيرة مع عبارات هذا المشهد حتى تتمَّ الفائدة.
ففي الصحيحين عَن أَبِي هُرَيرَةَ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَشَ مِنْهَا نَهْشَةً، ثُمَّ قَالَ: (أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ؟) قال: (يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ وَالكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَلاَ يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟)، وفي روايةٍ: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ).
ففي هذا الموقف في ساحة الحساب يجمع الله الأولين والآخرين كلهم، لا يغيب منهم أحد، ولا يتخلَّف منهم أحد، ولا ينسى منهم أحد: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم: 93-95)، فالله -عز وجل- يُبصرهم ويسمع ما يقولون، لا يخفى عليه من ذلك شيء: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة: 18).
وفي هذا الموقف الرَّهيب يكون الناس في كرب عظيم؛ فالشمس تقترب من الناس، فيبلغ بهم الكرب والغم أعلاه، ويأتيهم ما لا يطيقون، وقد فصَّل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ما يصيب الناس من كَربٍ في حديث آخر؛ فقال: (تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا) (رواه مسلم).
وعندما ينظر الناس إلى ما هم فيه من البلاء والغمِّ والكرب، يقول الناس بعضهم لبعضٍ: (أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟) (متفق عليه)، وفي رواية: (يَقُولُونَ: لَو اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا) (رواه البخاري)، ورُوي عن قتادة في قوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، قال: "يقومون مقدار ثلاثمائة عام"، أي: قبل بدء الحساب يوم عصيب، كما قال الحسن: "ما ظنك بأقوام قاموا لله -عز وجل- على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة، لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة".
وهنا تتجه الأنظار إلى الأخيار من البشر الذين لهم المقامات العاليات عند الله، وفي مقدمتهم سادة الرسل والأنبياء، أمَّا المتجبرون والمتكبرون في الدنيا من أصحاب المال والجاه، والملك والسلطان: كفرعون وهامان، وقارون، ونمرود، وجنكيزخان وأمثالهم، فلا يُلتفت إليهم ولا يُذكرون؛ لأنهم يحشرون في صورة مهينةٍ ذليلةٍ؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الخَبَالِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). والذرُّ: صغارُ النمل، وصغار النمل لا يعبأ به الناس؛ فيطؤونه بأرجلهم وهم لا يشعرون.
قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: عَلَيْكُمْ بِآدَمَ) (رواه البخاري)، وفي روايةٍ: (يَأْتِي الْمُؤْمِنُونَ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فالذي يطلب الشفاعة من الرسل هم المؤمنون من بين جميع الناس؛ لأن المؤمنين هم أهل العقل والفهم الصحيح، وأما الكفار فقد كفروا بالرسل؛ فكيف يأتون إليهم؟!
وللحديث بقية -إن شاء الله-.