الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 09 نوفمبر 2022 - 15 ربيع الثاني 1444هـ

الشائعات وأثرها في هدم الأُسَر وتفكك المجتمع وهدم الدول

كتبه/ شريح المعبدي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن أخطر ما يهدد المجتمعات والدول والشعوب، هو سرعة نقل الأخبار وتفشيها قبل التثبُّت وقبل وزنها بميزان الشرع والعقل؛ فليس كل ما يقال حقيقة، وليس كل حقيقة تنشر.

وقد روى الحافظ ابن كثير في سبب نزول قوله تعالى: "يا أيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ": أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الوليد بن عقبة بن أبي معيط رضي الله عنه إلى بني المصطلق ليأتي له بالزكاة التي جمعها منهم ملكهم الحارث بن ضرار رضي الله عنه، فلما وصل إلى بعض الطريق كأنه خاف فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أين الزكاة؟ فقال الوليد: لقد منعني الحارث، وكاد أن يقتلني؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة وفي الطريق لقيهم الحارث ومعه زكاة بني المصطلق، فرجعوا ورجع معهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لماذا منعت الزكاة وكدت أن تقتل رسولي؟ فقال: والذي بعثك بالحق لم يأتني رسول منك؛ فلما أبطأ عليَّ جئتك بالزكاة، فنزلت الآيات.

فانظر كيف كاد أن يُقتل قوم بسبب خبر غير صحيح!

قال السعدي رحمه الله في تفسير آية الحجرات: "وهذا أيضًا من الآداب التي على أولي الألباب، التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا؛ فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال، بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق، التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه؛ عمل به وصُدِّق، وإن دلت على كذبه؛ كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه؛ ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير من الخوارج، المعروفين بالصدق، ولو كانوا فساقًا".

وانظر إلى آثار حادثة الإفك وأضرارها البليغة في مجتمع المهاجرين والأنصار -أفضل البشر بعد الرسل- وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد تلبّث الوحي وتلهفت الأرض إلى خبر السماء، وتوقفت الفتوحات، وانشغل الناس بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته شهرًا كاملًا، واختلفوا حتى كاد الحيان من الأوس والخزرج أن يتقاتلا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين يديه في حضرته، والمدينة يومئذٍ أغلبها مؤمنون يتخللهم عدد قليل من المنافقين؛ فكيف إذًا يكون أثر الشائعات في مجتمع أغلبه لم يتربَّ التربية الإيمانية؟!

ولا يخفى كيف كان أثر شائعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم في "أُحُد"، وكيف انهزم المسلمون، وعاد الكثير منهم إلى بيته، وبعضهم ألقى سلاحه؛ فلم يستفيقوا من أثر سمها إلا بصيحات أنس بن النضر رضي الله عنه: "قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وفي زماننا ومجتمعاتنا أحداث عظام لا تعد ولا تحصى بسبب الشائعات؛ خاصة في وجود وسائل النشر مع قِلَّة الدين، وحب الشهرة، والتسابق في نشر الأخبار بدون تثبت وبدون النظر في مآلات نشر الخبر، بل لا يخفى كيف أنه أصبح للإشاعات دول مصنعة، ومنظمات ينفقون عليها لتزيينها وإلباسها ثياب الحقيقة، ومنصات وأذرع إعلامية لخدمة أجنداتهم لتحقيق أهدافهم المشبوهة، ولاستنزاف الدول، وتدمير المجتمعات، ونشر الفوضى.

وقد جعل الإسلام للمجتمع المؤمن سياجًا وحصنًا حصينًا، ومن ذلك جعل للكلمة شأنًا عند الله، فقال تعالى: "مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ"، وجعل أشد أنواع الكذب هو نقل الكلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع"، ونقل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة عذاب ناقل الكلام، وشدة عذابه في قبره كما في حديث سمرة بن جندب أن الذي يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه؛ هو العبد الذي يخرج من بيته يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق!

ونهانا عن القول بدون تثبت، فقال تعالى: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا"، وعلمنا كيف نتعامل مع الشائعات، فقال تعالى: "لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ"، وقال تعالى: "وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عظيم".

ومن ذلك/ أن الله تبارك وتعالى حَرَّم الكذب والغيبة والنميمة، وسوء الظن، وسدَّ كل ذريعة لانتشار الشائعة.

ومن ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصًا أن يسد باب القيل والقال، فعندما مرَّ برهط من الصحابة ومعه زوجه؛ قال: "على رسلكم، إنها صفية!"؛ فأرشدنا عليه الصلاة والسلام أن لا نكون في موضع شبهات؛ سواء بقول أو بفعل، أو تصرُّف من شأنه أن يفتح شهية ونهم المرجفين للخوض في المجتمع، ونشر سمومهم فيه.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.