الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 16 أغسطس 2022 - 18 محرم 1444هـ

فوائد من قصة قاتل المائة نفس (موعظة الأسبوع)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

مقدمة:

- الإشارة إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستخدم القصص في الدعوة والتربية؛ لما له من عظيم الفائدة على النفوس والقلوب: قال -تعالى-: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف: 176).

- هذه قصة تفتح باب الأمل لكلِّ عاصٍ مهما عظم ذنبه، وكبر جرمه: فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى راهِبٍ، فأتاهُ فقالَ: إنَّه قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ به مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى رَجُلٍ عالِمٍ، فقالَ: إنَّه قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ، ومَن يَحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلى أرْضِ كَذا وكَذا، فإنَّ بها أُناسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فاعْبُدِ اللَّهَ معهُمْ، ولا تَرْجِعْ إلى أرْضِكَ، فإنَّها أرْضُ سَوْءٍ، فانْطَلَقَ حتَّى إذا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتاهُ المَوْتُ، فاخْتَصَمَتْ فيه مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذابِ، فقالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جاءَ تائِبًا مُقْبِلًا بقَلْبِهِ إلى اللهِ، وقالَتْ مَلائِكَةُ العَذابِ: إنَّه لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فأتاهُمْ مَلَكٌ في صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بيْنَهُمْ، فقالَ: قِيسُوا ما بيْنَ الأرْضَيْنِ، فَإِلَى أيَّتِهِما كانَ أدْنَى فَهو له، فَقاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أدْنَى إلى الأرْضِ الَّتي أرادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ) قالَ قَتادَةُ: فقالَ الحَسَنُ: ذُكِرَ لَنا، أنَّه لَمَّا أتاهُ المَوْتُ نَأَى بصَدْرِهِ. (متفق عليه).

- شرح مجمل للقصة، ثم الإشارة إلى الدروس والعِبَر.

(1) بيان سعة رحمة رب العالمين:

- سعة رحمة الله بقبول توبة التائبين، مهما كثرت ذنوبهم، وعظم جرمهم، وكثرت خطاياهم(1): ففي القصة يظهر إقبال الله الغني الحميد على الرجل بالغفران والصفح والتوبة، حتى غيَّر له نواميس الكون: ففي بعض الروايات: (فأوْحَى اللَّهُ إلى هذِه أنْ تَقَرَّبِي، وأَوْحَى اللَّهُ إلى هذِه أنْ تَباعَدِي، وقالَ: قِيسُوا ما بيْنَهُما، فَوُجِدَ إلى هذِه أقْرَبَ بشِبْرٍ، فَغُفِرَ له) (رواه البخاري)، وفي أخرى: (فَقَرَّب اللهُ مِنْهُ القَرْيَةَ الصَّالِحَةَ، وبَاعَدَ مِنْهُ القَرْيَةَ الخَبِيْثَةَ، فَأَلْحَقُوه بِأَهْلِ القَرْيَةِ الصَّالِحَة) (رواه أحمد، وقال محققو المسند: إسناده صحيح).

- بيان سعة رحمة رب العالمين هو الدرس الأعظم والأسمى من القصة: قال -تعالى-: (‌وَرَحْمَتِي ‌وَسِعَتْ ‌كُلَّ ‌شَيْءٍ) (الأعراف: 156)، وقال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا على أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53)، وقال -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (الشورى: 25)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (التَّائبُ مِنِ الذَّنبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 135).

- لا تيأس ممَّن أكثروا مِن المعاصي، فقلوبهم بيد خالقهم، ولعله يتوب عليهم: قال -تعالى- معاتبًا نبيه يوم أُحُد لما أيس من إيمان المشركين: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ . وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ? وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران: 128-129)، وعن أنس -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‌كُسِرَتْ ‌رَبَاعِيَتُهُ ‌يَوْمَ ‌أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟! فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128)(2). (قصة الشاب الأمريكي الأسود الذي أسلم ليلة وفاته بعد صلاة الفجر في المسجد، وتلاوته لسورة الإخلاص أمام المصلين، امتثالًا لحديث: (بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً) (رواه البخاري)، الذي سَمِعَه ممَّن دعاه إلى الإسلام ليلة وفاته -رحمه الله-).

- بل لا يبعد في كرم الله -تعالى- ورحمته -إذا صحت توبة العبد وصدقت-، أن يضع مكان كل سيئة حسنة: عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا الجَنَّةَ، وآخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْها، رَجُلٌ يُؤْتَى به يَومَ القِيامَةِ، فيُقالُ: اعْرِضُوا عليه صِغارَ ذُنُوبِهِ، وارْفَعُوا عنْه كِبارَها، فَتُعْرَضُ عليه صِغارُ ذُنُوبِهِ، فيُقالُ: عَمِلْتَ يَومَ كَذا وكَذا كَذا وكَذا، وعَمِلْتَ يَومَ كَذا وكَذا كَذا وكَذا، فيَقولُ: نَعَمْ، لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُنْكِرَ وهو مُشْفِقٌ مِن كِبارِ ذُنُوبِهِ أنْ تُعْرَضَ عليه، فيُقالُ له: فإنَّ لكَ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فيَقولُ: رَبِّ، قدْ عَمِلْتُ أشْياءَ لا أراها هاهُنا)؛ فَلقَدْ رَأَيْتُ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نَواجِذُهُ. (رواه مسلم).

(2) شروط التوبة الصادقة:

- هذه الفائدة من باب التنبيه؛ لئلا يظن بعض الناس أن الرجل كان يجرِّب طريق التوبة! لا، بل كان الرجل صادقًا في توبته، ولذلك ظهرت في أحواله شروط التوبة الصادقة.

أ‌- الإقلاع عن المعصية(3): (وهو ظاهر في حال الرجل، فإنه لم يضيع وقته، فقد مضى إلى تلك الديار، يطلب حياة جديدة، يطلب حياة الطهر والصلاح والاستقامة، ليغسل نفسه من قذر الذنوب، ويحييها بالطاعة والصلاح).

ب‌- الندم على ما سَلَف في الماضي، فلا يتذكر المعصية إلا تندمًا وانكسارًا وخوفًا(4): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (النَّدَمُ تَوْبَةٌ) (رواه أحمد وابن ماجه واللفظ له، وصححه الألباني)، وقال عبد الله بن مسعود: "إنَّ المؤمنَ يرَى ذنوبَه كأنه في أصلِ جبلٍ يخافُ أنْ يقعَ عليه، وإنَّ الفاجرَ يرَى ذنوبَه كذبابٍ وقع على أنفِه" (رواه الترمذي وأحمد واللفظ لهما، ورواه البخاري، باختلافٍ يسيرٍ، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ... ) (متفق عليه).

ت‌- العزم الجازم على عدم العودة(5): (وهذا ظاهر في توبة الرجل، فلشدة رغبته في التوبة وندمه على ما كان، وعزمه البُعْد عن المعصية وأسبابها، فإنه عندما وصل لمنتصف الطريق، وأدرك أنه دنت ساعته، نَاء بصدره جهة الأرض الطيبة، ومات مُقْبِلًا على الله، تاركًا وراءه متبرئًا من حياة مليئة بالذنوب والخطايا).

ث‌- رد الحقوق إلى أهلها، إذا كانت التوبة متعلقة بالمخلوقين: (وفي ذلك فقه يرجع فيه إلى العلماء في طريقة ذلك بحسب ظروف المسألة).

(3) فضل العلم والعلماء:

- هذا ظاهر في القصة بشدة، فإن الرجل لم يكن ليستطع أن يفتي نفسه، فمثله مِن الغرقى في الذنوب لا عِلْم عندهم؛ ولذا خَرَج يبحث عن عالم يفتيه، وهو يعلم أن مسألته عظيمة، لا يستطيع أن يفتيه فيها إلا مَن عَظُم عِلْمُه؛ ففي القصة: (فَسَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ... ).

- وفي ذلك بيان فضل العلم والعلماء، فلم يكن هذا الرجل عالمًا فحسب، بل كان مربيًا ومرشدًا كذلك؛ فلم يكتفِ بإجابته بأن باب التوبة مفتوح على مصراعيه، بل دَلَّه على الطريق الذي يجب عليه أن يسلكه: ففي القصة: (ومَن يَحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ... )، وقال -تعالى-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة: 11)، وقال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر: 28).

- أما العُبَّاد فهم قليلو العلم يُخدع بأمثالهم العوام، ويُخطئ كثيرٌ مِن العُبَّاد ويَنخدِعون بإقبال الناس على سؤالهم، فيفتون بغير علم، فيضرون بأنفسهم وبغيرهم: ففي الحديث: (... فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ به مِئَةً)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَانَ إِثْمُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ) (رواه أبو داود وابن ماجه، وحسنه الألباني)، ورُوي في الأثر: "أجرؤكم على الفُتيا أجرؤكم على النار" (رواه الدارمي في مسنده، وضعفه الألباني)، وعن نافع: "أن رجلًا أتى ابن عمر يسأله عن شيء، فقال: لا علم لي، ثم التفت بعد أن قفى الرجل، فقال: نِعم ما قال ابن عمر، يسأل عما لا يعلم، فقال: لا علم لي، يعني ابن عمر نفسه" (رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى، والدارمي في السنن، والحاكم في المستدرك على الصحيحين).

- القصة تُظهِر فضل العالم على العابد، وأن العابد ينبغي أن يسعى مع اجتهاده في التعبد، أن يطلب العلم، ولا يغتر بثناء العوام عليه، واغترارهم بتعبده: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَضْلُ ‌العَالِمِ ‌عَلَى ‌العَابِدِ ‌كَفَضْلِي ‌عَلَى ‌أَدْنَاكُمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وفي رواية أبي داود: (وَإِنَّ ‌فَضْلَ ‌الْعَالِمِ ‌عَلَى ‌الْعَابِدِ، ‌كَفَضْلِ ‌الْقَمَرِ ‌لَيْلَةَ ‌الْبَدْرِ ‌عَلَى ‌سَائِرِ ‌الْكَوَاكِب) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

خاتمة:

- الإشارة إلى الدروس المستفادة إجمالًا؛ لا سيما الدرس الأول.

نسأل الله أن يتوب علينا في الدنيا والآخرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يحسن الوقوف على هذا المعنى من خلال الإشارة إلى عظيم فجور الرجل وجرأته على سفك الدماء، إلى درجة أنه يقتل مَن لا يوافقه فيما يريد، كما كان مِن قتله العابد.

(2) يحسن الإشارة إلى أن عامة المشركين الذين قَاتَلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أُحُد أسلموا بعد ذلك، ومِن أبرزهم: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وهند بنت عتبة، وأبو سفيان بن حرب.

(3) فلا يكون ذلك عن عجز وعدم قدرة، كالمدخن الذي منعه المرض، وكالمتبرجة التي سترت عورتها بعد تشوهها من حريق، فلا بد من تصحيح نية التوبة.

(4) لا أن يذكرها تباهيًا، فهو كحال الذين يجاهرون بالمعاصي التي سترها الله عليهم.

(5) كالذي امتنع عن المحرمات في شهر رمضان ناويًا الرجوع إليها بعد رمضان.