الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 07 يوليه 2022 - 8 ذو الحجة 1443هـ

لا تلوموني!

كتبه/ حسني المصري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فهنا في بقاع مكة وعلى أرضها الطاهرة، حيث مهبط الوحي، كان جبريل عليه السلام يتردد بين السماء والأرض يبلِّغ رسالة الإسلام إلى نبي الإسلام ورسول الإنسانية خير البرية، وأكرم مَن وطأ حصاها.

هنا عاش المصطفى صلى الله عليه وسلم سني عمره الأكثر، عاش ثلاث وخمسين سنة قضاها بين جنباتها، كان أربعون منها قبل مبعثه، وثلاث عشرة سنة بعد البعثة.

هنا سار النبي صلى الله عليه وسلم بين جنباتها، وصعد على جبالها، وسكن أرضها وتزوَّج بها، وعمل ورعى الغنم في وديانها، وتاجر فيها، وجلس إلى أهلها، هنا صدع بالحق وجاء بالنور ونشر الهدى ودعا إلى الإيمان والتوحيد.

وهنا كابد المعاندين، وجاهد في الله معهم ودعاهم وأنذرهم وبشَّرهم، وكان شديد الحرص على هدايتهم.

وهنا طاردوه وآذوه وحاربوه وسخروا منه، وحاولوا قتله وأخرجوه، ومع ذلك لم يشأ لهم ضرًّا ولا أذى، بل كان يرجو الله أن يُخرج مِن أصلابهم مَن يعبد الله لا يشرك به شيئًا.

هنا استكمل الرسالات، ودعا إلى الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام، وهنا جاء الخليل أبو الأنبياء أرضها، وترك فيها زوجه وولده البكر الرضيع.

هنا قالت الزوجة المؤمنة الصابرة القوية المحتسبة: "إذًا لن يضيعنا الله".

وصدقت وصدق الله.

وهنا تردد إبراهيم يتفقد أم ولده هاجره وولده إسماعيل حتى إذا بلغ السعي معه جاءه الأمر من ربه بذبحه، وهنا استجاب إبراهيم لأمر ربه، ونزع كلَّ حب من قلبه إلا حبه لربه، وهنا رجم إبراهيم إبليس، وانقاد لأمر مولاه واستجاب الغلام كذلك صابرًا منقادًا لوحي الله.

هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث بغار حراء الليالي ذوات العدد.

هنا خلا بربه متدبرًا متفكرًا حتى جاءه الوحي: "اقرأ".

هنا مكة أم القرى، ومركز الكون، والبلدة الطيبة، والبلد الأمين، ومَن دخلها كان آمنًا، وهنا عاش أصحاب النبي رضي الله عنهم، وهنا دخلها فاتحًا منتصرًا فلم يشأ أن ينتقم، بل عفا وصفح وأمنهم على أنفسهم وأموالهم.

وهنا حج قبل أن يفارق الدنيا بعام، ووقف بعرفات، وخطب فيهم وهم أكثر من مائة ألف، ويقررهم: ألا هل بلغت؟ فيقولون: اللهم نعم، فيقول: "اللهم اشهد".

هنا تتفطر القلوب شوقًا، وتنهمر الدموع حبًّا، وتسعد الروح فرحًا.

هنا الروح والفرح، هنا الحياة والأمل، هنا النجاة، هنا تتقرب فتقترب.

هنا الكعبة بجمالها وبهائها وشرفها.

هنا البيت الحرام، هنا الإسلام، هنا المسلمون جاءوا يسكبون العبرات.

هنا جاءوا ليطرحوا عن كواهلهم أعباء الحياة.

هنا فروا من الذنوب والآثام والشهوات، وهنا أيضًا وقفوا على صعيد عرفات يدعون ويرجون، ويجأرون ويخافون، ويتشوقون، ويبكون!

هنا يطلع الله عليهم في نزول إلهي مهيب كما يليق به سبحانه يباهي بهم: جاءوني شعثًا غبرًا، أشهدكم أني قد غفرتُ لهم.

هنا تعتق الرقاب ويعودون وقد وُلِدوا من جديد.

هنا كل شيء وأعظم شيء وأجمل شيء.

فلا تلوموا قلبي أن بالشوق يتفطَّر، ولا تلوموا عيني أن بالدمع تنهمر.