الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 06 يونيو 2022 - 7 ذو القعدة 1443هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (69) عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وحسدهم لهم رغم أنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام (3)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) (النساء: 51-55).

في الآيات فوائد:

الفائدة الأولى: ذَمَّ اللهُ اليهودَ بإيمانهم بالجِبْتِ، ومنه: الكهانة، والسحر، وعبادة الأوثان، وكلها مِن أمر الشيطان ورنته وصوته. والطاغوت، وهو: كل ما يُعبَد من دون الله، وهو راضٍ، وهذا الإيمان بالباطل إنما هو بموافقة أهله، وتصويب ملتهم وإن لم يعتقدوا بقلوبهم صحة عبادتها، ولكنهم يقولون ذلك مجاملة للمشركين؛ كراهية للحق الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحسدًا للمؤمنين، مع أن المؤمنين أقرب إليهم نَسَبًا، وأقرب إليهم عقيدة، وكتابهم أقرب إلى كتابهم، ومع ذلك فالحسد قد أَكَل قلوبَهم!

وهذا الذم للكفار مِن أهل الكتاب هو للمسلمين أيضًا؛ لو فعلوا فعلهم، واتَّبعوا أهل الكتاب على صنيعِهم؛ فادعاء الإيمان بالكتاب مع مخالفة ما يأمر به لا ينفع صاحبه؛ فالذين يدَّعون الإيمان بالقرآن والرسول عليه الصلاة والسلام من المسلمين، ثم يتعاملون بالسحر الذي يتضمَّن كفرًا، ويأتون الكهان والعرافين والمنجمين مدعي علم الغيب، ومنهم: قارئي الأبراج الذين يدَّعون معرفة ما في الغدِ مِن خلال تاريخ الميلاد، والبرج الذي وُلِد فيه الإنسان، وادِّعاء صفات ملازمة لكلِّ برج ومواليده، وبالتالي يتوقَّعون أنماطًا للشخصية بناءً على ذلك!

وللأسف: هذا من أكثر مواقع المطالعة على شبكة الإنترنت، وكل هذا ينافي الإيمان بالقرآن وبالرسول عليه الصلاة والسلام.

ومِن الإيمان بالطاغوت في زماننا: مَن يصححون عبادة غير الله، ويرون مَن يعبد البقرَ مثلًا على حضارة ورُقِيٍّ! وكذا مَن يَعْبُد "بوذا" عندهم، بل ويعلنون ذلك! ويعلنون كراهيتهم أن يزدري المسلمون هذه العقائد الفاسدة الكفرية، والتي كفرها معلومٌ مِن الدِّين بالضرورة؛ أما اليهود والنصارى عندهم؛ فهم مؤمنون! يدخلون الجنة التي زعموا كفرًا وزورًا أنها ليست حِكْرًا على المسلمين، وغير ذلك من الضلالات: كوصف قتلاهم بالشهداء، والترحُّم عليهم، والصلاة عليهم، والاستغفار لهم، وإهداء ثواب الأعمال لهم: كقراءة الفاتحة لهم.

وكذلك تهنئة الأحياء منهم بأعيادهم الشركية؛ بزعم أن هذا مِن البرِّ والقِسْط، وهذا من الكذب على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلو كان منه -من البرِّ- لبادر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته امتثالًا لأمر الله؛ لأنهم أحرص الناس على البرِّ والقسط الذي أمر اللهُ به؛ كيف وقد ثَبَت عنهم النهي عن ذلك والتحذير منه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (‌وَمَنْ ‌تَشَبَّهَ ‌بِقَوْمٍ ‌فَهُوَ ‌مِنْهُمْ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال الله عز وجل: (‌ثُمَّ ‌جَعَلْنَاكَ ‌عَلَى ‌شَرِيعَةٍ ‌مِنَ ‌الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الجاثية: 18)، وقد دخل في أهوائهم: كل ما يهوونه، ومِن ذلك: ما يهوونه مِن تعظيم المسلمين لعيدهم وتهنئتهم لهم، روى البيهقي بإسناد صحيح عن عمر -رضي الله عنه- قال: "لَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، ‌فَإِنَّ ‌السَّخْطَةَ ‌تَنْزِلُ ‌عَلَيْهِمْ"، وروى البيهقي أيضًا بإسنادٍ جيدٍ عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "مَنْ مَرَّ بِبِلَادِ الْأَعَاجِمِ ‌فَصَنَعَ ‌نَيْرُوزَهُمْ ‌وَمَهْرَجَانَهُمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ كَذَلِكَ، حُشِرَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

قال ابن القيم -رحمه الله-: "ولا يجوز للمسلمين حضور أعياد المشركين باتفاق أهل العلم الذين هم أهله، وقد صَرَّح به الفقهاء مِن أتباع المذاهب الأربعة في كتبهم" (أحكام أهل الذمة).

وروى ابن جرير وغيره عن: أبي العالية، وطاوس، وابن سيرين، والضحاك، وغيرهم، في قوله تعالى: (‌وَالَّذِينَ ‌لَا ‌يَشْهَدُونَ ‌الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان: 72)؛ قالوا: "هي أعياد المشركين".

قال أبو حفص الكبير الحنفي -رحمه الله-: "لو أن رجلًا عَبَد الله تعالى خمسين سنة، ثم جاء يوم النيروز وأهدى إلى بعض المشركين بَيْضَة يريد تعظيم ذلك اليوم؛ فقد كَفَر وحَبِط عملُه".

وقال صاحب الجامع الأصغر -أيضًا من الحنفية-: "إذا أهدى يوم النيروز إلى مسلمٍ آخر، ولم يُرِد به تعظيم اليوم، ولكن على ما اعتاده بعض الناس؛ لا يكفر، ولكن ينبغي أن لا يفعل ذلك في هذا اليوم خاصة، ولكن يفعله قبله أو بعده؛ لكيلا يكون تشبيهًا بهؤلاء القوم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ).

وقال في الجامع الأصغر: "رجل اشترى يوم النيروز شيئًا يشتريه الكفرة منه، وهو لم يكن يشتريه قبل ذلك؛ إن أراد به تعظيم ذلك اليوم كما تعظِّمه المشركون كفر، وإن أراد الأكل والشرب والتنعم لا يكفر" (انتهى من البحر الرائق شرح كنز الدقائق للعلامة ابن نُجيم الحنفي 8/ 555).

وأما المالكية: فقد صَرَّح أشهب -كما في العتبية- قال: "قيل لمالك: أترى بأسًا أن يهدي الرجل لجاره النصراني مكافأة له على هدية أهداها إليه؟ قال: ما يعجبني ذلك، قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ‌تُلْقُونَ ‌إِلَيْهِمْ ‌بِالْمَوَدَّةِ) الآية (الممتحنة: 1). قال ابن رشد -رحمه الله-: قوله: مكافأة له على هدية أهداها إليه؛ إذ لا ينبغي له أن يقبل منه هدية؛ لأن المقصودَ من الهداية التودد؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تهادوا تحابوا، وتذهب الشحناء"؛ فإن أخطأ وقَبِل منه هديته وفاتت عنده، فالأحسن أن يكافئه عليها حتى لا يكون له عليه فضل في معروفٍ صَنَعَه معه.

وسُئِل مالك -رحمه الله- عن مؤاكلة النصراني في إناءٍ واحدٍ، قال: "تركه أحب إليَّ، ولا يُصَادِق نصرانيًّا.

قال ابن رشد رحمه الله: الوجه في وَجْهِ مُصَادِقة النصراني بيِّن؛ لأن اللهَ -عز وجل- يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ ‌مَنْ ‌حَادَّ ‌اللَّهَ ‌وَرَسُولَهُ) (المجادلة:22).

ومِن مختصر الواضحة: "سُئِل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي يركب فيها النصارى لأعيادهم؛ فكَرِه ذلك مخافة نزول السَّخَط عليهم لكفرهم الذي اجتمعوا له. قال: وكَرِه ابنُ القاسم للمسلم أن يهدي للنصراني في عيده مكافأة له، ورآه مِن تعظيم عيده وعونًا له على مصلحة كفره؛ ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئًا من مصلحة عيدهم؛ لا لحمًا، ولا إدامًا، ولا ثوبًا، ولا يُعَارون دابة، ولا يعانون على شيءٍ مِن دينهم؛ لأن ذلك مِن التعظيم لشركهم، وعونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك، وهو قول مالك، ولا أعلم أحدًا اختلف في ذلك (انتهى كلام ابن القاسم).

ويُمنَع التشبُّه بهم؛ لما ورد في الحديث: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)، ومعنى ذلك: تنفير المسلمين عن موافقة الكفار في كلِّ ما اختصوا به، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يكره موافقة أهل الكتاب في كلِّ أحوالهم حتى قالت اليهود: "إن محمدًا يريد أن لا يَدَع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه".

وقد جَمَع هؤلاء بين التشبُّه بهم فيما ذُكِر والإعانة لهم على كفرهم، ويزدادون به طغيانًا؛ إذ إنهم إذا رأوا المسلمين يوافقونهم أو يساعدونهم أو هما معًا؛ كان ذلك سببًا لغبطتهم بدينهم" (انتهى من المدخل لابن الحاج المالكي باختصارٍ 2 /46- 48).

(قلتُ: ما ذكره ابن القاسم عن الإمام مالك في كراهية الإهداء؛ إنما هو فيما إذا أراد بذلك التودد، ويدل عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي ‌نُهِيتُ ‌عَنْ ‌زَبْدِ ‌الْمُشْرِكِينَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، حين رَدَّ هدية مشرك، وأما ما ثَبَت أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَبِل هدايا مِن بعض المشركين وأهدى إليهم؛ كما قَبِل من ‌أُكَيْدِرِ ‌دُومَة، وقَبِل مِن المقوقس، ومِن غيرهما؛ فهذا فيما لم يُرَد به التودد).

وقال الإمام الدميري من الشافعية -رحم الله- في فصل التعزير: "تتمة: يُعزَّر مَن وافق الكفار في أعيادهم، ومَن يمسك الحية، ومَن يدخل النار، ومَن قال لذمي: يا حاج، ومَن هنَّأه بعيده، ومن سَمَّى زائر قبور الصالحين حاجًّا، والساعي بالنميمة؛ لكثرة إفسادها بين الناس" (انتهى من النجم الوهاج في شرح المنهاج للعلامة الدميري الشافعي).

وكذا قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (4/ 191).

وقال ابن حجر الهيتمي الشافعي في باب الردة: "ثم رأيتُ بعض أئمتنا المتأخرين ذَكَر ما يوافِق ما ذكرتُه، فقال: ومِن أقبح البدع: موافقة المسلمين النصارى في أعيادهم؛ بالتشبه بأكلهم، والهدية لهم، وقبول هديتهم فيه، وأكثر الناس اعتناءً بذلك: المصريون، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)، بل قال ابن الحاج: لا يحل لمسلمٍ أن يبيع نصرانيًّا شيئًا مِن مصلحة عيده؛ لا لحمًا، ولا أدمًا، ولا ثوبًا، ولا يُعَارون شيئًا ولو دابة؛ إذ هو معاونة لهم على كفرهم، وعلى وُلَاة الأمر منعُ المسلمين من ذلك.

ومنها: اهتمامهم في النيروز بأكل الهريسة، واستعمال البخور في خميس العيدين سبع مرات؛ زاعمين أنه يدفع الكسل والمرض، وصبغ البيض أصفر وأحمر، وبيعه، والأدوية في السبت الذي يسمونه: "سبت النور!"، وهو في الحقيقة سبت الظلام، ويشترون فيه الشبت، ويقولون: إنه للبركة، ويجمعون ورق الشجر ويلقونها في ليلة السبت بماءٍ يغتسلون فيه لزوال السحر، ويكتحلون فيه لزيادة نور أعينهم، ويدهنون فيه بالكبريت والزيت، ويجلسون عرايا في الشمس؛ لدفع الجَرَب والحَكَّة، ويطبخون طعام اللبن، ويأكلونه في الحمام، إلى غير ذلك من البدع التي اخترعوها. ويجب منعهم من التظاهر بأعيادهم" (انتهى من الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي 4/ 238 -239).

وأما الحنابلة: فقد قال العلامة البهوتي في "كشف القناع عن متن الإقناع": "وقال الشيخ: يحرم شهود عيد اليهود والنصارى، وغيرهم من الكفار وبيعه لهم فيه، وفي المنتهى: لا نبيع لهم فيه. ومهاداتهم لعيدهم؛ لما في ذلك مِن تعظيمهم، فيشبه بداءتهم بالسلام، ويحرم بيعهم وإجارتهم ما يعملونه كنيسة أو تمثالًا -أي: صنمًا- ونحوه، كالذي يعملونه صليبًا؛ لأنه إعانة لهم على كفرهم، وقال تعالى: (‌وَلَا ‌تَعَاوَنُوا ‌عَلَى ‌الْإِثْمِ ‌وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2)، ويحرم كلُّ ما فيه تخصيص لعيدهم وتمييز لهم، وهو مِن التشبه بهم، والتشبه بهم منهي عنه إجماعًا؛ للخبر. وتجب عقوبة فاعله" (انتهى من كشف القناع على متن الإقناع للبهوتي 3 /131).