الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 30 مايو 2022 - 29 شوال 1443هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (68) عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وحسدهم لهم رغم أنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام (2)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا(النساء: 51-55).

قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: "(وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) أي: يفضِّلون الكفار على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم. وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما أنتم وما محمد. فقالوا: نحن نصل الأرحام، ونَنْحَرُ ‌الْكَوْمَاءَ، ونسقي الماء على اللبن، ونَفُكُّ الْعُنَاةَ، ونسقي الحجيج، ومحمد صُنْبُور؛ قطع أرحامنا، واتبعه سُرَّاق الحجيج بنو غِفَار؛ فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلًا؛ فأنزل الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا).

وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس وجماعة من السَّلَف.

وقال الإمام أحمد: عن ابن عباس قال: لما قَدِم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا الصنبور المنبتِر من قومه؟! يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية! قال: أنتم خير! قال فنزلت: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) (الكوثر:3) -(قال الشيخ محمود شاكر رحمه الله: الصنبور: سفعات تنبت في جذع النخلة، غير مستأرضة في الأرض. ثم قالوا للرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له، ولا عَقِب، ولا ناصر: "صنبور"؛ فأراد هؤلاء الكفار من قريش أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، صنبور نَبَت في جذع نخلة، فإذا قُلِع انقطع؛ فكذلك هو إذا مات، فلا عقب له! وكَذَبوا، ونصر الله رسوله وقطع دابر الكافرين)-.

ونزل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا).

وروى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كان الذين حزَّبوا الأحزاب من قريش، وغطفان، وبني قريظة: حيي بن أخطب، وسَلَّامُ بن أبي الحُقَيْق أبو رافع، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وأبو عمار، ووحوح بن عامر، وهودة بن قيس؛ فأما وحوح وأبو عامر وهودة فمِن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير، فلما قَدِموا على قريش، قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العِلْم بالكتب الأول؛ فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممَّن اتبعه! فأنزل الله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) إلى قوله عز وجل: (وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا).

فهذا لعن لهم، وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا، ولا في الآخرة؛ لأنهم إنما ذهبوا يستنصِرون بالمشركين؛ وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم، وجاءوا معهم يوم الأحزاب، حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق؛ فكفى الله شرهم: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) (الأحزاب:25).

وقوله -تعالى-: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا): يقول تعالى: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ)؟! وهذا استفهام إنكاري، أي: ليس لهم نصيب من الملك، ثم وصفهم بالبخل، فقال: (فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) أي: لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدًا من الناس، ولا سيما محمدًا صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولا ما يملأ "النقير"، وهو النقطة التي في النواة، في قول ابن عباس والأكثرين.

وهذه الآية كقوله -تعالى-: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ) (الإسراء:100)، أي: خوف أن يذهب ما بأيديكم، مع أنه لا يتصور نفاده، وإنما هو مِن بخلكم وشحكم؛ ولهذا قال: (وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا) (الإسراء:100) أي: بخيلًا.

ثم قال: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) يعني بذلك: حَسَدَهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم مِن تصديقهم إياه حسدهم له؛ لكونه من العرب، وليس من بني إسرائيل.

روى الطبراني بسنده عن ابن عباس في قوله -تعالى-: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) الآية، قال: نحن الناس دون الناس (قلتُ: أي: نحن المقصودون بكلمة الناس في قوله عز وجل: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) دون باق الناس).

قال الله -تعالى-: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا) أي: فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل -الذين هم من ذرية إبراهيم- النبوةَ، وأنزلنا عليهم الكتب، وحكموا فيهم بالسنن وهي: الحكمة، وجعلنا فيهم الملوك، ومع هذا (فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ) أي: بهذا الإيتاء، وهذا الإنعام، (وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ) أي: كفر به وأعرض عنه، وسَعَى في صدِّ الناس عنه، وهو منهم ومن جنسهم، أي: من بني إسرائيل، فقد اختلفوا عليهم؛ فكيف بك يا محمد، ولستَ من بني إسرائيل؟!

وقال مجاهد: (فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ) أي: بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، (وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ) فالكفرة منهم أشد تكذيبًا لك، وأبعد عما جئتهم به من الهدى، والحق المبين.

ولهذا قال متوعِّدًا لهم: (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) أي: وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم، ومخالفتهم كتب الله ورسله" (انتهى من تفسير ابن كثير).

قال ابن جرير رحمه الله: "الجبت والطاغوت: اسمان لكلِّ معظَّم بعبادةٍ من دون الله، أو طاعة، أو خضوع له؛ كائنًا ما كان ذلك المعظَّم، مِن حجر أو إنسان أو شيطان، وإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها، كانت معظَّمة بالعبادة من دون الله؛ فقد كانت جُبوتًا وطواغيت، وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولًا منهما ما قالا في أهل الشرك بالله.

وكذلك حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، لأنهما كانا مطاعين في أهل ملتهما من اليهود، في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين.

وفي قوله -تعالى-: (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا): يعني بذلك جل ثناؤه: ويقولون للذين جحدوا وحدانية الله ورسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (هَؤُلاءِ) يعني بذلك: هؤلاء الذين وصفهم الله بالكفر، (أَهْدَى) يعني: أقوم وأعدل (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)، يعني: من الذين صَدَّقوا الله ورسوله وأقرُّوا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، (سَبِيلًا) يعني: طريقًا.

وإنما ذلك مَثَلٌ، ومعنى الكلام: أن اللهَ وَصَف الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما، وأنهم قالوا: إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به، وأن دين أهل التكذيب لله ولرسوله، أعدل وأصوبُ من دين أهل التصديق لله ولرسوله، وذلك من صفة كعب بن الأشرف، وأنه قائل ذلك.

وأولى الأقوال بالصحة في ذلك: قولُ مَن قال: إن ذلك خبرٌ مِن الله -جل ثناؤه- عن جماعة من أهل الكتاب من اليهود، وجائز أن يكون: كانت الجماعةَ الذين سمَّاهم ابن عباس في الخبر الذي رواه محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد (يعني ابن جبير)، أو يكون حُيَيًّا، وآخَرَ معه؛ إما كعبًا، وإما غيرَه" (انتهى من تفسير الطبري بتصرفٍ واختصارٍ).