الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 23 مايو 2022 - 22 شوال 1443هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (67) عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وحسدهم لهم رغم أنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فقال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ? وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) (النساء:51-55).

إن عداوةَ اليهود للمسلمين عداوةٌ متأصِّلة متجذِّرَة كما وصفهم الله تعالى بقوله: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (المائدة:82)، وقد بدأت هذه العداوة بمجرد البَعْثَة النبوية الشريفة التي كرَّم اللهُ بها العربَ مِن نسل إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم، وقد كان الواجب عليهم في الشرع والعقل مراعاة النَّسَب الذي بين العرب وبينهم؛ إذ الجميع مِن ذرية إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ فهم أبناء إسحاق بن إبراهيم، والعرب أبناء إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم.

ومع ذلك فقلوبهم المليئة بالكبر والعدوان، والعُجْب بالنفس، وادِّعاء الاختصاص بالاجتباء، والحسد القاتل للعرب؛ رغم ما يعلمون مِن كتابهم مِن وجود أمة عظيمة من نسل إسماعيل وَعَدَ اللهُ عز وجل بها إبراهيم كما في التوراة في سفر التكوين رقم: (20) مِن قول الله عز وجل لإبراهيم: (أما إسماعيل فقد سمعتُ لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره، وأكثِّره كثيرًا جدًّا، اثني عشر رئيسًا يلد، وأجعله أمة كبيرة).

ولا وجود لهذه الأمة الكبيرة من نسل إسماعيل صلى الله عليه وسلم؛ إلا ببعثة النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإيتائه النبوة والمُلْك لأمته مِن بعده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (‌إِنَّ ‌اللهَ ‌زَوَى ‌لِي ‌الْأَرْضَ، ‌فَرَأَيْتُ ‌مَشَارِقَهَا ‌وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا) (رواه مسلم).

ومِن هنا حدث لليهود الحسد والكبر على المسلمين، وزعموا أن المسلمين أولاد الجارية، وأن اليهود أبناء الزوجة، والعبرة بالأب في هذا المقام؛ فإن الأبَ واحدٌ، وهم كانوا يظنون -بعد ما حدث لهم من بلاءات؛ بسبب كفرهم وشركهم وقتلهم الأنبياء- أن هذا النبي المنتظر سيكون منهم، ولم يعلموا أن الاجتباء قد تحوَّل إلى أبناء عمومتهم العرب، والاصطفاء قد تمَّ به وَعْدُ الله لإبراهيم في إسماعيل ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومُلك العرب والمسلمين بحمد الله تعالى الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس كما وصفهم الله تعالى، فقال: (‌كُنْتُمْ ‌خَيْرَ ‌أُمَّةٍ ‌أُخْرِجَتْ ‌لِلنَّاسِ ‌تَأْمُرُونَ ‌بِالْمَعْرُوفِ ‌وَتَنْهَوْنَ ‌عَنِ ‌الْمُنْكَرِ ‌وَتُؤْمِنُونَ ‌بِاللَّهِ) (آل عمران: 110).

وجعل ملكهم في المشارق والمغارب، وكلَّفهم بأن يُعلوا كلمة الله عز وجل في الأرض كلها، وأن يجاهدوا بالقرآن وبالسنان، بالدعوة والقتال في سبيل الله؛ فعند ذلك كَفَرَ اليهودُ وآمنوا بالجبت والطاغوت، ووالوا الكفار المشركين عباد الأوثان ضد المؤمنين أتباع محمدٍ صلى الله عليه وسلم حتى وصفوهم بأنهم أهدى مِن الذين آمنوا سبيلًا! وكل عاقل -فضلاً عن مؤمنٍ بالله وبرسله- يعلم أن دينَ النبي صلى الله عليه وسلم هو أرفع من دين المشركين، بل من كلِّ دين يخالفه على الإطلاق، وأن ما بعثه الله به، وما أنزل عليه في كتابه -الذي لا يوجد مثله من الكتب المنزلة؛ فضلًا عن غيرها- ما فيه مِن العقائد أعلى مِن كلِّ عقيدة أخرى، وأن ما فيه من العبادات والأخلاق، والشرائع، والتحليل والتحريم، ونظام الدولة والمجتمع، أعلى مِن كلِّ ما سبقه مِن الرسالات والكتب السماوية؛ فضلًا عمَّا وضعه الناس بآرائهم.

ومع ذلك فعداوة اليهود لنا أشد العداوة، وكفرهم أعظم الكفر؛ رغم أن المنطلقات التي عندهم كانت تُوجِب عليهم الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم كما آمن ورقةُ بن نوفل، وكما آمن عبد الله بن سلام، ولكن قَتَل الحسدُ قلوبَ كبراء اليهود مِن زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا!

فهذه الآيات البيِّنات من صورة النساء تبيِّن كفرَ اليهود وشركهم، وعداوتهم وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه، مع أنهم مِن آل إبراهيم الذين آتاهم اللهُ المُلْكَ العظيم في نسل إسحاق ويعقوب، ثم في نسل إسماعيل صلى الله عليه وسلم أبي الأمة العظيمة.

ثم جاء الدور على الأمة العظيمة ورؤسائها مِن خُلَفَاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (لَا يَزَالُ الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ يَكُونَ عَلَيْكُمُ ‌اثْنَا ‌عَشَرَ ‌خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) (رواه مسلم)؛ على خلاف بين العلماء في هذا الحديث؛ إلا أنه يتوافق مع ما ورد في التوراة، والظاهر أنهم خلفاء هذه الأمة الراشدون -كما سبق أن شرحناه في مواضع أخرى-.

فقوله سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا).

قال ابن كثير رحمه الله: "أما الجبت: فقال محمد بن إسحاق عن حَسَّان بن فائدٍ، عن عمر بن الخطاب أنه قال: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. وهكذا روي عن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن، والضحاك، والسدي.

وعن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وأبي مالك، وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن، وعطية: الجبت: الشيطان. وزاد ابن عباس: بالحبشية. وعن ابن عباس أيضًا: الجبت: الشرك. وعنه: الجبت: الأصنام.

وعن الشعبي: الجبت: الكاهن. وعن ابن عباس: الجبت: حيي بن أخطب. وعن مجاهد: الجبت: كعب بن الأشرف.

وقال العلامة أبو نصر بن إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه: "الصحاح": الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر، ونحو ذلك، وفي الحديث: "الطيرة والعيافة، والطَّرْق من الجبت" (قلتُ: الطيرة: التشاؤم، وكذا التفاؤل بالطيور. والعيافة: زجر الطير؛ لتتجه يمينًا أو شمالًا، فيأخذ منها مسارًا يسير فيه بناءً على الاتجاه الذي ذهبتْ فيه؛ فإن خرجت يمينًا سافر، وإن خرجتْ يسارًا لم يسافر. والطَّرْق: الخطوط التي يفعلها الكهان، ثم يقرأون منها الغيب بزعمهم كقراءة الفنجان!).

قال: وليس هذا من محض العربية؛ لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذولقي.

وهذا الحديث الذي ذكره رواه الإمام أحمد في مسنده عن قَطَن بن قبيصة، عن أبيه -وهو قبيصة بن مخارق- أنه سَمِع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت"، وقال عوف: العيافة: زجر الطير. والطرق: الخط يُخَطُّ في الأرض. والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان. وهكذا رواه أبو داود في سننه، والنسائي، وابن أبي حاتم (وهو حديث حسن).

وقد تقدَّم الكلام على "الطاغوت" في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.

(قلتُ: والصحيح أنه كلُّ مَن عُبِد مِن دون الله وهو راضٍ، وكذا كل مَن اتبع على غير شرع الله عز وجل، وعلى غير بصيرة من الله؛ ولذا فهو يشمل: الشيطان، والكاهن، والساحر، والحاكم بغير ما أنزل الله، والحاكم المبدِّل لشرع الله).

وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله أنه سُئِل عن "الطواغيت"، فقال: هم كهان تنزل عليهم الشياطين.

وقال مجاهد: الطاغوت: الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم.

وقال الإمام مالك: هو كل ما يعبد من دون الله عز وجل" (انتهى من تفسير ابن كثير بتصرفٍ يسيرٍ).

وللحديث بقية إن شاء الله.