الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 26 أبريل 2022 - 25 رمضان 1443هـ

العلامات الحسان على حسن الاستعداد لشهر رمضان (9) هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الغرض من الموعظة:

إثارة الهمم إلى الاجتهاد في العبادة في الليالي الباقية من رمضان.

المقدمة:

بالأمس القريب كنا نستقبل رمضان، وها هو يركض وقد ذهب أكثره، وهذه سمة الأوقات والأزمان الفاضلة السعيدة: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌كُتِبَ ‌عَلَيْكُمُ ‌الصِّيَامُ ‌كَمَا ‌كُتِبَ ‌عَلَى ‌الَّذِينَ ‌مِنْ ‌قَبْلِكُمْ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَتَّقُونَ . أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) (البقرة: 183-184).

- بركة وأفضلية الخواتيم في السنن الشرعية والكونية: (آخر السماوات - آخر الكتب السماوية - أواخر الليل - آخر الأنبياء - آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم - العشر الأواخر من رمضان)

- ليالٍ مباركة أوشكت على الرحيل، بقي منها آخرها وأفضلها: قالت عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره" (رواه مسلم).

فكيف كان هديه صلى الله عليه وسلم لنقتدي به في هذا الموسم الشريف؟!

1- الاجتهاد في طاعة الله عز وجل:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان اجتهادًا عظيمًا حتى لا يكاد يقدر عليه: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره" (رواه مسلم)، وعنها رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر، أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ وشدَّ المئزر" (متفق عليه)(1).

2- إيقاظ الأهل وحثهم على الطاعة:

كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقظ أهله للصلاة والعبادة في هذه الليالي العشر: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ وشدَّ المئزر" (متفق عليه)(2)، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان" (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وفي رواية الطبراني في المعجم الأوسط: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر من شهر رمضان، وكل صغير وكبير يطيق الصلاة"، وروى الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدًا يطيق القيام إلا أقامه".

إذا كان هذا الفضل في غير العشر، فكيف به فيها؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن استيقظ مِن الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعًا؛ كُتِبا مِن الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وقال تعالى: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 35).

3- تحري ليلة القدر:

إن ليلة القدر المباركة هي إحدى ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان التي يُسن فيها الاجتهاد في العبادة؛ لتحصيل عظيم أجرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (التمسوها -أي: ليلة القدر- في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر) (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان) (متفق عليه).

ومن خصائص ليلة القدر:

- أن الله -جل جلاله- أنزل فيها القرآن الكريم: قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر: 1)، وقال أيضًا: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) (الدخان: 3).

وفي هذه الليلة تقدَّر مقادير الخلائق على مدار العام، فيكتب فيها الأحياء والأموات، والسعداء والأشقياء، والآجال والأرزاق، وكل ما أراده الله -جل جلاله- في السنة المقبلة(3): قال تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان: 4).

ومن خصائص ليلة القدر أن جبريل عليه السلام والملائكة يتنزلون فيها بالخير والبركة: قال تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر:4)، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة؛ لكثرة بركتها" (تفسير ابن كثير).

وقد بيَّن الله -عز وجل- فضيلة ليلة القدر: فقال سبحانه: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر: 3)(4).

وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المحروم من حُرم أجر ليلة القدر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  ( ... لله فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه) (رواه البخاري ومسلم).

وإن السُّنة لمَن أدرك ليلة القدر الإكثار من دعاء: "اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعفُ عني"، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعفُ عني) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

توصيات لاغتنام العشر الأواخر من رمضان في البيوت في زمان إغلاق المساجد:

1- أن يحث رب الأسرة أهل بيته على إحياء ليالي العشر الأواخر من رمضان، ويوقظهم للعبادة، ويبيِّن لهم فضيلة هذه الليالي، ويعدوا خطة تتضمن الترتيب لاغتنام هذه الليالي بين صلاة وتلاوة قرآن، وذكر وتسبيح، واستغفار ودعاء، وغيرها من أوجه الطاعات؛ بالإضافة إلى شيء من الاستراحة، وتناول بعض الطعام أو الشراب الذي يعينهم على إكمال القيام.

2- الاجتهاد في ختم القرآن في الصلاة أو خارج الصلاة في العشر الأواخر من رمضان لمَن استطاع إلى ذلك سبيلًا: بأن يختم القرآن قراءة في صلاته؛ بحيث يصلي كل ليلة بثلاثة أجزاء من القرآن الكريم، أو يقرأ ثلاثة أجزاء خارج الصلاة، فيختم القرآن في الليلة الأخيرة من ليالي العشر الأواخر من رمضان، وقد جاء عن بعض السلف الصالح اجتهادهم في ختم القرآن في العشر الأواخر من رمضان؛ فكان قتادة رحمه الله يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا دخل رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا دخل العشر ختم في كل ليلة مرة (المروزي، مختصر قيام الليل).

3- الاجتهاد في تدبر القرآن أثناء التلاوة؛ تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم: فعن حذيفة قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيحٌ سبح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوُّذٍ تعوَّذ" (رواه مسلم، ورواه الترمذي والنسائي بلفظ: "إذا مر بآية عذاب وقف وتعوذ").

4- الإكثار من ذكر الله تعالى: (التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والحوقلة، والاستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم - إلخ): فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والورق، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟) قالوا: بلى، قال: (ذكر الله تعالى) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غُرست له نخلةٌ في الجنة) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

5- الإكثار من الدعاء في العشر الأواخر من رمضان، فيدعو المسلم بما يشاء من خيري الدنيا والآخرة: قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، والملاحظ أن هذه الآية وردت وسط الآيات المتعلقة بأحكام الصيام؛ الأمر الذي نلمس منه أهمية الدعاء في هذا الشهر خاصة، وقبول الدعاء واستجابته عند الله جل جلاله (تفسير ابن عاشور).

6- الخلوة مع الله جل جلاله: إن المقصد الأساسي لعبادة الاعتكاف الخلوة بالله عز وجل، وترك الانشغال بالدنيا؛ فينبغي على المسلم أن يحرص على أن يختليَ بربه في ليالي العشر الأواخر من رمضان في بيته، حتى ولو لجزءٍ من الليل؛ ليناجيَ ربه، ويذكره، ويدعوه، ويتضرع إليه، وينكسر بين يديه، وينشغل به جل جلاله عن الدنيا وما فيها.

والخلاصة:

إن المطلوب من المسلمين في العشر الأواخر من رمضان الاجتهاد في بيوتهم، وإحياء الليل بالصلاة وتلاوة القرآن، والذكر والدعاء والاستغفار، وغيرها من أوجه الطاعات؛ اتباعًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وطمعًا في الأجر والثواب، وتحريًا وطلبًا لأجر ليلة القدر التي أخفاها الله جل جلاله عنا؛ ليحصل الاجتهاد في التماسها، فليجتهد كل مسلم في إحياء ليالي العشر الأواخر من رمضان، فمن استطاع أن يقوم الليل كله، فهذا أعلى الدرجات، وكلٌّ يجتهد قدر استطاعته، فلا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها، والأجر على قدر الجهد والمشقة، ومن كان أكثر فعلًا واجتهادًا؛ كان أكثر فضلًا وأجرًا، والمعول على القبول، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قال الإمام النووي رحمه الله: "اختلف العلماء في معنى: (شد المئزر)، فقيل: هو الاجتهاد في العبادات زيادةً على عادته صلى الله عليه وسلم في غيره، ومعناه: التشمير في العبادات. يقال: شددت لهذا الأمر مئزري، أي: تشمرت له وتفرغت. وقيل: هو كنايةٌ عن اعتزال النساء للاشتغال بالعبادات، وقولها: (أحيا الليل) أي: استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها. ففي هذا الحديث: أنه يستحب أن يُزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان، واستحباب إحياء لياليه بالعبادات" (شرح النووي على مسلم).

(2) قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: "وقولها: (وأيقظ أهله): أي: أيقظهم للصلاة في الليل، وجدَّ في العبادة زيادةً على العادة" (شرح النووي على مسلم).

(3) تفسير ابن كثير.

(4) وقد ذكر المفسِّرون في تفسير هذه الآية: أن العبادة في ليلة القدر أفضل عند الله جل جلاله من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر؛ ففي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر، وألف شهر تعدل ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر (تفسير القرطبي، وتفسير ابن كثير).