الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 10 أبريل 2022 - 9 رمضان 1443هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (63) الدِّين الإبراهيمي الحق يستلزم حجَّ بيت الله الحرام وقصده

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 95-97).

قال ابن كثير رحمه الله: "وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ) أي: فمنهن مقام إبراهيم والمَشْعَر.  

وقال مجاهد: أثر قدميه في المقام آية بينة. وكذا روي عن عمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، وغيرهم.

وقال أبو طالب في قصيدته:

ومَوْطئ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبةٌ      عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ ناعلِ

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، وعمرو الأودي، قالا: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: (مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ) قال: الحرم كله مقام إبراهيم. ولفظ عمرو: الحجر كله مقام إبراهيم.

وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: الحج مقام إبراهيم. هكذا رأيت في النسخة، ولعله الحجر كله مقام إبراهيم، وقد صرَّح بذلك مجاهد.

وقوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) يعني: حَرمَ مكة؛ إذا دخله الخائف يأمن مِن كلِّ سوء، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية، كما قال الحسن البصري، وغيره: كان الرجل يَقْتُل فيَضَع في عنقه صوفة ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول؛ فلا يهيجه حتى يخرج.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى التيمي، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) قال: مَن عاذ بالبيت أعاذه البيتُ، ولكن لا يُؤوى ولا يُطعَم ولا يُسقى، فإذا خرج أُخِذ بذنبه.

وقال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (العنكبوت: 67)، وقال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش: 3-4)، وحتى إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره، وحرمة قطع أشجارها وقلع حشيشها، كما ثبتت الأحاديث والآثار في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعًا وموقوفًا؛ ففي الصحيحين، واللفظ لمسلم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة: "لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وإذَا استَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا"، وقال يوم الفتح فتح مكة: "إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحرمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَد شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقطْ لُقَطتَه إِلَّا مَنْ عَرَّفها، وَلَا يُخْتَلى خَلاها"، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذْخَرَ، فَإِنَّهُ لقَيْنهم ولبُيوتهم، فَقَالَ: "إِلَّا الإذْخَر".

ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه، ولهما -واللفظ لمسلم أيضًا- عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولًا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلَّم به، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إنَّ مَكِّةَ حَرَّمَهَا اللهُ ولَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامرئ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، ولا يَعْضد بِهَا شَجَرةً"، فإن أَحَد ترخَّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله أَذِن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس؛ فليبلغ الشاهد الغائب. فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخزية.

وعن جابر قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا يَحِلُّ لأحَدِكُمْ أنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلاحَ" (رواه مسلم).

وعن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: "واللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ اللهِ، وأحَبُّ أرْضِ اللهِ إلَى اللهِ، ولَوْلا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" رواه الإمام أحمد، وهذا لفظه، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وقال الترمذي: حسن صحيح، وكذا صحح من حديث ابن عباس نحوه، وروى أحمد عن أبي هريرة، نحوه.

وقال ابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة بن هبيرة، في قوله تعالى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) قال: آمنًا من النار.

وفي معنى هذا القول الحديث الذي رواه البيهقي بسنده عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل البيت دخل في حسنة، وخرج من سيئة، وخرج مغفورًا له"، ثم قال: تفرد به عبد الله بن المؤمل، وليس بقوي.

وقوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) هذه آية وجوب الحج عند الجمهور. وقيل: بل هي قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (البقرة:196)، والأول أظهر.

وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعًا ضروريًّا، وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع.

قال الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس، قد فُرِض عليكم الحج فَحُجُّوا"، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم"، ثم قال: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فإنما هَلَك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه"، ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن يزيد بن هارون، به نحوه.

وقد روى سفيان بن حسين بسنده عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج"، فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله، أفي كل عام؟ قال: "لو قلتها، لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولم تستطيعوا أن تعملوا بها، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع" رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم من حديث الزهري، به، ورواه شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، بنحوه. وروي من حديث أسامة يزيد.

وقال الإمام أحمد بسنده عن علي قال: لما نزلت: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) قالوا: يا رسول الله، في كل عام؟ فسكت، قالوا: يا رسول الله، في كل عام؟ قال: "لا، ولو قلتُ: نعم، لوجبت"، فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (المائدة: 101).

وكذا رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم، من حديث منصور بن وردان، به: ثم قال الترمذي: حسن غريب. وفيما قال نظر؛ لأن البخاري قال: لم يسمع أبو البختري من علي.

وقال ابن ماجه بسنده عن أنس بن مالك: قالوا: يا رسول الله، الحج في كل عام؟ قال: "لو قلت نعم، لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها، ولو لم تقوموا بها لعُذِّبتُم".

وفي الصحيحين من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن جابر، عن سراقة بن مالك قال: يا رسول الله، متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ قال: "لا، بل للأبد"، وفي رواية: "بل لأبَد أبَد".

وفي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، من حديث واقد بن أبي واقد الليثي، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجته: "هذه ثم ظُهُور الحُصْر"؛ يعني: ثم الزَمْنَ ظُهُور الحُصْر، ولا تَخْرُجْنَ مِن البُيُوت" (انتهى كلام ابن كثير رحمه الله).

وللحديث بقية إن شاء الله.