الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 23 مارس 2022 - 20 شعبان 1443هـ

من أصول أهل السنة والجماعة في التعامل مع النصوص الشرعية (4)

كتبه/ وائل عبد القادر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

رابعًا: عدم الخوض في النصوص الشرعية بغير علم:

من مظاهر تعظيم النصوص الشرعية ألا يتكلم فيها إلا مَن كان له علم بها، فلا تكون النصوص المعصومة مستباحة لكلِّ أحدٍ؛ فتلوكها جميع الألسن بعلم وبدون علم!

فعلى المسلم أن يمسك عما ليس له به علم، وأن يحذر من الخوض في ذلك، وأن يجعل نصب عينيه قوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا).

وقد نقل الإِمام الشافعي الإِجماع على أنه ليس لأحدٍ كائنًا مَن كان أن يقول إلا بعلم، فقال: "ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلّا من جهة علم مضى قبله، وجهة العلم: الكتاب والسنة والإِجماع والآثار، وما وصفت من القياس عليها".

وهذا أمر لا ينبغي لعاقل يحذر على دينه أن يستريب فيه، وإلا هلك مع الهالكين، وهل ضلت الفرق وأضلت إلا بعد أن تركت هذا الأصل؟!

وهذا هو الإِمام ابن عبد البر ينقل إجماع أئمة الأمصار قديمًا وحديثًا، ويؤكد ما قاله الإِمام الشافعي حيث قال: "الاجتهاد لا يكون إلا على أصول يضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يجتهد إلا عالم بها، ومَن أشكل عليه شيء؛ لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولًا في دينه لا نظير له من أصل، ولا هو في معنى الأصل، وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديمًا وحديثًا؛ فتدبر ... ".

فالخوض في معاني كلام الله وكلام رسوله دون دراية أو سؤال مِن القول على الله بلا علم، وهذا من الذنب العظيم؛ فضلًا عما يجره من المفاسد من ضلال الآخرين وإضلالهم، قال تعالى: (وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ)، وقال سبحانه: (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ).

وقد جعل القرآن القول على الله بغير علم من أعظم الظلم وأكبره، فقال عز وجل: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، بل جعله قرين الشرك بالله تعالى، فقال عز وجل: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، وغير ذلك من الآيات التي تنهى عن القول على الله تعالى بغير علم.

وإنه لمن المؤسف أن يُجعل كلام الله وكلام رسوله وأحكام الشرع المطهر ميدانًا للحوار والنقاش والجدل من أناسٍ ليس لهم حظ من العلم الشرعي، وأحيانًا من العقل فيحصل في هذه الحوارات من السفه والتأويل والتحريف للنصوص الشرعية مما يضعف تعظيمها والانقياد لها في نفوس مَن يستمع إلى مثل هذه الحوارات في مجالس الناس، أو فيما يبث في الفضائيات فيحصل أن يستسهل الناس الأمر، ويتعودوا القول على الله بغير علم، وكأن ما يطرح في الحوار قضية سياسية أو أدبية!

والناس اليوم -إلا مَن رحم الله- يبحثون عن الرخص، والتخلص من الأحكام الشرعية، وما ذاك إلا لضعف الدعوة إلى التمسك بالأحكام الشرعية وتعظيمها.

فكل مَن سلك طريقًا يظنه طريق الجنة بغير علم، فقد سلك أعسر الطرق وأشقها، ولا يوصل إلى المقصود مع عسرة شديدة، وطرق شاقة، ومخاوف وقفار، ومآله إلى الهلاك والانقطاع في الطريق، وقد أنكر أعيان الأئمة والعلماء هذا عليهم.

ولهذا كله اشترط العلماء مجموعة من الشروط لا بد من استجماعها كلها بحيث لا يستطيع أحدٌ أن يتكلم في دين الله تعالى إلا إذا حصَّل الآلة التي بها يستطيع فهم الأحكام من النصوص، والآلة هذه هي ما يسميه الفقهاء والأصوليون بملكة الاجتهاد وشروطه.

وقد أجملها العلماء في قولهم: ولا يعد الفقيه مجتهدًا؛ إلا إذا كان جامعًا لشروط الاجتهاد من معرفة باللغة العربية وبلاغتها، وبأصول الفقه ومدارك الأحكام ومتعلقها من كتاب وسنة وإجماع، وأسباب نزول وورود، وناسخ ومنسوخ، ونص ومجمل، وظاهر ومؤول، وعام وخاص، وسائر أوجه الدلالات؛ حتى يكتسب بذلك قدرة على فهم النصوص الشرعية ومراميها: كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، ومحمد بن جرير الطبري؛ فكل مِن هؤلاء الفقهاء الأئمة مجتهد مطلق؛ له أصوله وقواعده ونهجه في الاستدلال، واستنباط الأحكام.