الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 16 مارس 2022 - 13 شعبان 1443هـ

العلامات الحسان على حسن الاستعداد لشهر رمضان (موعظة الأسبوع) (4) الاستفادة من الدروس الإيمانية في حادثة تحويل القبلة

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مقدمة:

- خص الله شهر شعبان بحادثة مهمة في تاريخ المسلمين، وهي: "حادثة تحويل القبلة".

ملخص الحادثة: عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صلى إلى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى صَلاَةَ العَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ المَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ، قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى القِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ البَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا، لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 143)" (متفق عليه).

اشتملت الحادثة على الدروس الكثيرة، ومنها الدروس الإيمانية التي ينبغي على مَن يستعد لشهر رمضان، الوقوف عليها والاستفادة منها، والتي من أبرزها درسان:

الدرس الأول: عظيم انقياد واستجابة الصحابة -رضي الله عنهم-:

- لم يترددوا لحظة عن التحوّل طاعةً لله ورسوله، فامتدحهم الله، وبيَّن لهم أن هذه الحادثة إنما كانت اختبارًا للناس وامتحانًا لهم، كما قال تعالى: (‌وَمَا ‌جَعَلْنَا ‌الْقِبْلَةَ ‌الَّتِي ‌كُنْتَ ‌عَلَيْهَا ‌إِلَّا ‌لِنَعْلَمَ ‌مَنْ ‌يَتَّبِعُ ‌الرَّسُولَ ‌مِمَّنْ ‌يَنْقَلِبُ ‌عَلَى ‌عَقِبَيْهِ ‌وَإِنْ ‌كَانَتْ ‌لَكَبِيرَةً ‌إِلَّا ‌عَلَى ‌الَّذِينَ ‌هَدَى ‌اللَّهُ) (البقرة: 143).

- وإلا فهناك مَن ارتاب وتشكك وازداد بعدًا: قال تعالى: (‌سَيَقُولُ ‌السُّفَهَاءُ ‌مِنَ ‌النَّاسِ ‌مَا ‌وَلَّاهُمْ ‌عَنْ ‌قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران:142)(1).

- أما الطائعون المنقادون فضربوا المثل الأعلى في الاستسلام والانقياد، فلم ينتظروا أن يفرغوا من الصلاة ثم يتبينون الأمر، بل كانت الاستجابة الفورية: ".. فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ ... ".

- وهكذا كانوا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه صور من ذلك(2):

1- استجابتهم في أمر الهجرة وترك الأوطان والأهل والأموال:

- نزلت الآيات تشير فقط إلى الهجرة مِن زاوية أن النفوس ستموت لا محالة، لكن المهم أن تموت وهي تعمل بدين الله، فقاموا واستعدوا وانتظروا التصريح بالهجرة: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(العنكبوت: 56- 57).

2- استجابتهم في ترك المحرمات:

- كانت الخمر عماد حياتهم الاقتصادية، وعادة مجالسهم الاجتماعية، ولكنها الاستجابة لأمر الله ورسوله: عن أنس -رضي الله عنه- قال: "... فَإِنِّي لَقَائِمٌ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ، وَفُلاَنًا وَفُلاَنًا، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: وَهَلْ بَلَغَكُمُ الخَبَرُ؟ فَقَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: حُرِّمَتِ الخَمْرُ، قَالُوا: أَهْرِقْ هَذِهِ القِلاَلَ يَا أَنَسُ، قَالَ: فَمَا سَأَلُوا عَنْهَا، وَلاَ رَاجَعُوهَا بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ" (رواه البخاري).

3- استجابة نسائهم في ترك تبرج الجاهلية:

- القرآن ينزل بالحكم، فلا يصبحون إلا وقد انصاعوا: روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "إِنَّ لِنِسَاءِ قُرَيْشٍ لَفَضْلا، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ لَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ(النور: 31)، انْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِنَّ فِيهَا، وَيَتْلُو الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ، وَعَلَى كُلِّ ذِي قَرَابَتِهِ، مَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلا قَامَتْ إلى مِرْطِهَا الْمُرَحَّلِ فَاعْتَجَرَتْ بِهِ تَصْدِيقًا وَإِيمَانًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ، فَأَصْبَحْنَ يُصَلِّينَ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصُّبْحَ مُعْتِجِرَاتٍ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ" (أخرجه ابن أبي حاتم).

4- استجابتهم في ترك شهواتهم وملذاتهم في أشد الظروف:

- مع شدة الفقر والجوع، والتعب والمشقة في الحرب، يمتنعون عن الطعام لما ذكروا بالتحريم: عن عبد الله بن أبي أوفى قال: "أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتْ بِهَا الْقُدُورُ، نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، أَنِ اكْفَئُوا الْقُدُورَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا" (متفق عليه).

5- من عجائب الاستجابة منهم -رضي الله عنهم-:

الاستجابة المطلقة فيما لا يشملهم به التكليف: عن جابر -رضي الله عنه-: لمَّا استوى رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يومَ الجمعةِ، قالَ: (اجلِسوا)، فسمعَ ذلِكَ ابنُ مسعودٍ فجلسَ على بابِ المسجدِ! فرآهُ رسولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم- فقالَ: (تعالَ يا عبدَ اللَّهِ بنَ مسعودٍ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (أبو عقيل الأنصاري في رمقه الأخير، يسمع المنادي يهتف أثناء المعركة، فيقول: "لبيك لبيك!"(.

الدرس الثاني: عظيم أخوة الصحابة -رضي الله عنهم:

- اهتمام الأحياء بمعرفة حال إخوانهم الأموات قبل التحويل: قال البراء -رضي الله عنه-: "وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى القِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ البَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا، لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)".

- وهكذا ضربوا المثل الأعلى في الأخوة الصادقة، يفرحون بفرح إخوانهم ويحزنون لحزنهم: دخول عمر -رضي الله عنه- على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وهما يبكيان، فقال: "يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا" (رواه مسلم).

- وهكذا الصادقون في أخوتهم في كل زمان: ففي الحديث أن أهل الجنة اذا دخلوا الجنة ولم يجدوا بعض إخوانهم الذين دخلوا النار شفعوا لهم وألحوا على ربهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ، وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ ... ) (متفق عليه).

وكان الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- إذا ذكر هذا الحديث في مجلس يقول للحضور: "إن لم تجدوني في الجنة؛ فاسألوا عني، فقولوا: يا ربنا عبدك فلان ... كان يذكرنا بك"، ثم يبكي رحمه الله.

خاتمة:

- تغيرت القبلة في شعبان قبل رمضان؛ فهل نتغير نحن قبل أن يقبل علينا رمضان، وقد ازددنا تعظيمًا لحرمات الله تعالى؟!

فاللهم بلغنا رمضان، ووفقنا فيه لحسن العمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فالمشركون قالوا: رجع إلى قبلتنا فقد كان على ضلال! واليهود قالوا: ترك قبلة الأنبياء! والمنافقون قالوا: ما يدري أين يتوجه؛ فان كانت الأولى حقًّا فقد تركها، وان كانت الثانية حقًّا فقد كان على باطل!

(2) تعالوا فانظروا ... إلى أين وصل هؤلاء الكرام في الانقياد والاستجابة، وأين كثير من الناس الذين لا يزالون أسارى لذنوبهم، ولا يستجيبون لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أمور هي أيسر في التوبة منها، مما امتحن به هؤلاء الكرام (مدخن - نائم عن الفجر - آكل للحرام - متبرجة - مستمع للأغاني والأفلام والمسلسلات - إلخ).