الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 08 مارس 2022 - 5 شعبان 1443هـ

فوائد من رفض الأمة لعدوان "إبراهيم عيسى" على الثوابت!

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فهذه تعليقات سريعة على قصة "إبراهيم عيسى"، وتطاوله على الثوابت:

1- تطاول هذا الكاتب على القرآن والسُّنَّة، وعلى رموز الأمة، تطاولًا ممنهجًا وممتدًا منذ كَتَب كتابه في نقد "الشيخ الشعراوي"، والذي يتمدح به دائمًا؛ رغم أن كتابه هذا كان قائمًا على التربص والتصيُّد في درجة دقة المعلومات العلمية التي كان يقولها "الشيخ الشعراوي" رحمه الله على هامش تفسيره، رغم أن هذه المعلومات كان يذكرها ضمن غرض عام من الأغراض التي كان "الشعراوي" رحمه الله يحرص عليها، وهي: أن كلَّ ما يكتشفه الإنسان من أسرارٍ في الكون حوله تدل على عِظَم الخالق، وبالتالي: لم تكن دقة المعلومة العلمية مؤثِّرة في الغرض الذي سيقت لأجله.

وبالطبع كنا نتمنى ألا يعطي الشيخ "الشعراوي" الفرصة لأمثال هذا الشخص لكي يتسلقوا على كتفه ويشتهروا بنقدهم له.

وعلى أيٍّ فقد أغرى هذا الكتاب كاتبه أنه هو القادر أن يعد للشيوخ السمَّ الناقع، والنقد الذي يسكتهم، رغم أنه يعجز عن قراءة شيء مما كتبوه ولو بالتهجي!

ويمكنك أن تراجع الحلقة التي قرأ فيها فقرات من الكتب التي (وُضِعت أمامه) وقرأ منها (الفقرات التي وضع تحتها خطًّا)؛ لتدرك أنه لم يقرأ ما قبلها ولا ما بعدها.

2- مِن خذلان الله لهذا الرجل: أنه في غمرة حماسه في الهجوم على الثوابت أنكر المعراج؛ فوقع اختيارًا مخذولًا حينما اختار أشهر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية، كما أن لها منزلة عظيمة في قلوب عموم المسلمين، حتى إنهم عدوا ذكراها في 27 رجب موسمًا، ومِن ثَمَّ اعتبرته الدولة كذلك، وتقيم فيه احتفالًا سنويًّا (وهذا من تدبير الله تعالى بغض النظر عن حكم اتخاذ هذه المناسبات موسمًا سنويًّا).

والرجل -كما هو حال معظم العالمانيين- يحاول ألا يصطدم بالسلطة، مع أن الليبرالية في جوهرها ثورة على الدِّين والأخلاق والحكومات؛ إلا أنهم في سبيل تحريض الحكومات ضد الدُّعاة إلى الله يخفون، ويجزؤون إظهار منهجهم، وسيتضح هذا من خلال التعليق على فخره بالانتساب لـ"أحمد لطفي السيد" عرَّاب "كرومر" الأشهر في مصر!

المهم ألا نغتر بتراجعه الذي جاء عندما انتبه أنه دهس حقل ألغام!

3- إبراهيم عيسى ادَّعى في حلقة قريبة أيضًا: أن معظم المصريات في الوجه البحري والصعيد كُنَّ يرتدين المايوه إذا ذهبن إلى المصيف! وهي جرأة عجيبة في تزييف التاريخ القريب جدًّا، والذي توجد منه صور فوتوغرافية كثيرة، لدرجة أنه حينما أراد أن يثبت أن كلامه مدعوم بوثائق؛ أتى بلقطاتٍ من أفلام سينمائية (ولعل هذا يجعلنا ننتبه إلى خطورة استعمال السينما لاحقًا في تزييف التاريخ للأجيال القادمة).

المهم لم نكن نظن أن تذهب به الجرأة إلى أن يحرِّف كلامه الذي قاله قبل أسبوع، والموجود صوتًا وصورة على السوشيال ميديا، فقد قال نصًّا: "حيقول لك ايه الشيخ؟ حيحكى لك قصص. قصص وهمية، في معظمها وهمي. طب لما يأتي يقول لك الإسراء والمعراج، طب إيه رأيك إن مفيش معراج؟ وكل قصص أنه طلع السماء، وشاف الناس اللي في الجنة والناس اللي في النار، كل دي قصة وهمية كاملة! ده مش كلامي، ده كتب السيرة وكتب التاريخ وحتى كتب الحديث بتقول كده. بس هو بيصدر لك الكتب التي تقول حصلت، والقصص اللي بتقول حصلت، والقصص اللي بتنفي تمامًا المعراج مش متقالة!".

وبالطبع لو قُدِّم هذا الكلام لأي جهة دورها تفسير النصوص -سواء شرعية أو قانونية-؛ لأكَّدت أنه كان ينفي ويحرِّض على النفي؛ لأنها جهات تتعامل مع النص أنه منسوب لقائله، ولقائله فقط، وأنه يجب أن يُفهَم على مراد قائله (ليس كما يدَّعي إبراهيم عيسى بالتفتيش في النوايا، بل بالرجوع إلى اللغة التي استعملها، ومعاني الكلمات والأساليب، ومعناها في لغته).

ولو جاز لإبراهيم عيسى أن يدعي أنه وحده مَن يملك تفسير كلامه، وأن يحلف لنا بأغلظ الأيمان أنه لم يقصد الطعن في المعراج؛ فعليه أن يقبل أن كلَّ مَن ردوا عليه -أو بحسب روايته: مَن هاجموا أسرته وعيَّروهم باتهام إبراهيم عيسى أنه زنديق، إلخ-؛ يتأولون هم أيضًا كلامهم بأنهم لم يقصدوا الإساءة، بل قصدوا الثناء والتأييد!

4- لقد ادَّعى إبراهيم عيسى أنه لم ينفِ المعراج، وإنما أراد أن يطالب العلماء بعرض كل الآراء، وأن هناك آراء تنفي، وجاء ومعه عِدَّة كتب فتحها على صفحاتٍ معينةٍ، وصوَّرت لنا الكاميرات أنه يقرأ فقرات قصيرة من كلِّ كتاب موضوع تحتها خط، ولا بأس أن يستشهد بفقرة من كتاب بشرط أن تكون فقرة تامة غير مرتبطة بما قبلها وما بعدها، أو يبيِّن هو هذا الترابط ويكون أمينًا في نقله، ثم أن يكون الشخص معه العلم الكافي ليميز هذا كله ... ولكن إبراهيم عيسى يبدو أنه لم يقرأ هذه المباحث من الكتب، وإنما اكتفى داخل الحلقة وخارجها بقراءة المواطن التي تحتها خط، وهذا أهون الاحتمالات!

وإلا فالاحتمالات الأخرى: أنه قرأ ولم يفهم الفَرْق بين إنكار المعراج وبين القول إنها بالروح فقط، أو أنه قرأ وفهم ثم تعمَّد تحريف كلام مَن نَقَل عنهم.

والخلاصة في الإسراء: أن هناك ثلاثة أقوال (هذا إن أدخلنا الأقوال الشاذة والمنحرفة في حسابنا):

- إثبات الإسراء يقظة بالروح والجسد.

- إثبات الإسراء يقظة بالروح فقط.

- القول بأن الإسراء كان رؤيا.

والحق أن الإسراء حصل بالروح والجسد يقظة؛ لقوله تعالى: (‌سُبْحَانَ ‌الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)، بل حكم العلماء بأن أي قول آخر في الإسراء هو قول كفري، وأن قائله إن كانت عنده شبهة توضَّح له؛ وإلا فيكون كافرًا لتكذيبه بصريح القرآن.

وكذلك المعراج فيه ثلاثة أقوال (هذا إن أدخلنا الأقوال الشاذة والمنحرفة في حسابنا):

- إثبات المعراج يقظة بالروح والجسد.

- إثبات المعراج يقظة بالروح فقط.

- القول بأن المعراج كان رؤيا.

وقد جعل العلماء مَن يقول: إن المعراج رؤيا منامية بمنزلة منكر الإسراء؛ لأن المعراج وإن أشارت إليه آيات القرآن بلا تصريح؛ فقد ثبت في السُّنَّة المتواترة؛ مما يجعل منكره مكذِّبًا بالمعلوم مِن الدِّين بالضرورة، وإن احتاج إلى إقامة حجة حال وجود شبهات.

وأما القول بأن المعراج كان بالروح فقط؛ فقد ناقشه أهل العلم باعتبار أنه يستأهل النقاش، ولكن جماهير العلماء رفضوه، حتى أهمل البعضُ هذا القول، فعدُّوا أن اعتقادَ أن المعراج كان يقظة بالروح والجسد من مواطن الإجماع.  

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (3/33): "ثم اختلف الناس: هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه، أو بروحه فقط؟ على قولين، فالأكثرون مِن العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا منامًا، ولا ينكرون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك منامًا، ثم رآه بعده يقظة؛ لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والدليل على هذا قوله -تعالى-: (‌سُبْحَانَ ‌الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء: 1)، فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء، ولم يكن مستعظمًا، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم، وأيضًا: فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، وقال تعالى: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا)، وقال -تعالى-: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (الإسراء: 60)، قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم، رواه البخاري، وقال -تعالى-: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) (النجم: 17)، والبصر من آلات الذات لا الروح. وأيضًا: فإنه حمل على البراق، وهو: دابة بيضاء براقة لها لمعان، وإنما يكون هذا للبدن، لا للروح؛ لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه، والله أعلم" (انتهى).

وبالتالي: فعلى الرغم مِن ضعف حجة مَن قال: إن المعراج كان بالروح فقط؛ إلا أنه يختلف عمَّن أنكره؛ لأن حقيقة القول بأنه رؤية منامية إنكار له؛ إذ لا عجب في أن يرى في المنام ذلك، بل أن يرى ما هو أعجب منه.  

5- يقسِّم الأشاعرة علم التوحيد إلى ثلاثة أقسام:

قال "الباجوري" في حاشيته على جوهرة التوحيد: "وقد انقسمت مباحث هذا الفن ثلاثة أقسام:

إلهيات: وهي المسائل المبحوث فيها عما يتعلق بالإله.

ونبوات: وهي المسائل التي يبحث فيها عما يتعلق بالأنبياء.

وسمعيات: وهي المسائل التي لا تتلقى أحكامها إلا من السمع".

وهذا القسم الثالث يسمَّى عندهم بالغيبيات باعتبار موضوعه، وبالسمعيات باعتبار أنه عندهم مما يُقبَل فيه الدليل السمعي (أي: الدليل النقلي من الكتاب والسنة) دون الحاجة إلى الدليل العقلي، بينما "باب الإلهيات" لا بد فيه من اجتماع الدليلين: العقلي والسمعي، فإذا تُوهِّم التعارضُ فإنهم يؤولون الدليل السمعي، بل بالغ الرازي؛ فجعل باب الإلهيات عقليًّا محضًا!

ورغم أن أصل الاشتغال بعلم الكلام بدأ كنوعٍ مِن الدفاع عن عقائد السلف بطريقةٍ عقليةٍ، إلا أنهم توهموا تعارضًا في بعض المسائل مع ما ظنوه دليلًا عقليًّا؛ لكنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد قطع حجتهم حينما أتى على كلِّ الأبواب التي توهموا فيها التعارض بين الشرع والعقل، ومِن ثَمَّ غلَّبوا العقل، وبيَّن أنه ليس ثمة تعارض بين الدليلين.

وقد بيَّن رحمه الله قواعد في غاية الأهمية:

أولها: استحالة تعارض الدليل الشرعي الصحيح مع القطعيات العقلية، وأننا متى توهمنا ذلك؛ فإن الخطأ مِن جهتنا نحن؛ فإما أننا نسبنا إلى الشرع ما ليس منه، أو أننا صنَّفنا مسألة على أنها من القطعيات العقلية، بينما هي مِن باب النظر العقلي، أو من باب ما يعجز العقل عن إدراكه.

وأما القطعيات العقلية فهي: التي تستند إلى الفطرة، أو بدهيات العقول، أو ما تولَّد منهما بطريقة استدلال برهاني، وهذه القطعيات من المحال أن تصادم الوحي، بل إن مِن الأصول المعتمدة في فهم النصوص الشرعية ألا تفسَّر بما يصادم القطعيات العقلية أو الحسية.

ثانيهما: النظر العقلي رؤية يراها صاحبها من استحسان شيء أو استقباح آخر، ونحن نرى الشخص يرى الرأي اليوم ويرجع عنه غدًا، بل رأينا أفكارًا مات ملايين بسببها: كالاشتراكية، ثم تراجع أصحابها عنها، ثم عادوا فحنوا إليها! فكيف يمكن لمَن يؤمن بالله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يجعل رأيًا رآه هو أو رآه غيره طعنًا فيما ثَبَت عن شرع رب العالمين؟!

الثالث: أعجب مِن هذا مَن يُعَارِض الشرع لمجرد أن يثبِت الشرع مسألة يعجز العقل عن التعرُّض لها بنفي أو إثبات؛ لعجز الحواس أو محدوديتها! وفي هذه قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الشرع يأتي بمحارات العقول، ولا يأتي بمحالات العقول".

وكنا نتمنى لو أدرك أصحاب المذاهب الكلامية كيف صارت أقوالهم وشبههم التي يذكرونها في باب الإلهيات هي بعينها التي يَلج منها الزنادقة والمشككون في باقي أبواب الدين.

ومن المفيد في تلك النازلة: أن نجد أن ردودَ رموز المدارس الكلامية -قديمًا وحديثًا- يرددون هنا ذات أصول الاستدلال عند أهل السنة والجماعة؛ فعندما قال المشككون في الإسراء والمعراج: إن القصة أو بعض تفاصيلها منافٍ للعقل، وخارم لنواميس الطبيعة؛ ردوا عليهم بلسان الحال أو بلسان المقال: "الشرع يأتي بمحارات العقول ولا يأتي بمحالات العقول!".

وحينما شكك المشككون في المعراج بكونه لم يُصرَّح به إلا في السنة؛ أجابوهم أن السنة وحي كما أن القرآن وحي، (‌وَمَا ‌يَنْطِقُ ‌عَنِ ‌الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 3، 4)

وحينما اعترض المشككون في أنها أحاديث آحاد أجابوهم: أن أحاديث الآحاد الصحيحة وَفْق قواعد النقد الدقيقة التي وضعتها الأمة يُحتَج بها في باب الغيبيات (وكنا نود لو قالوا: إنها يحتج بها مطلقًا؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل الصحابي الواحد لأهل بلد فيعلمهم الدين كله؛ عقائده وأحكامه).

6- المستفاد من هذا المسلك الذي اتفق عليه علماء الأمة -وإن خالفه مَن انتسب منهم إلى الأشعرية في باب الإلهيات- هو: أن منهج أهل الإسلام في معرفة دينهم قائم على:

1- أن لله عز وجل شريعة ملزمة: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى ‌شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).

2- أن هذه الشريعة مصدرها الأصيل هو القرآن، وهو الذكر الأول الذي قال فيه الله -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ‌الذِّكْرَ ‌وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، ومَن شك في القرآن أو في حفظ الله له؛ فقد خرج من ملة الإسلام.

وهو هنا يختلف عن نظرة الأمم الأخرى إلى الكتب التي بين أيديهم، وهم عدوا تلك الكتب تراثًا لهم اختلط فيه الإلهي بالبشري، ومِن ثَمَّ أخضعوه لمناهج نقد التراث، والتي أساسها معارضة المادة موضوع النقد لاكتشاف مدى توافقها مع التاريخ أو الاجتماع أو الأدب، أو حتى الصلاحية للتطبيق!

ولا يوجد مسلم يقول هذا على كتاب الله تعالى، بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث في أول الأمر، وهو القائل: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"، ولم يأذن فيه حتى استقر لدى الأمة تمييز القرآن مِن السنة.

3- أن السنة وحي من عند الله: (‌وَمَا ‌يَنْطِقُ ‌عَنِ ‌الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 3، 4)، وأنها الذكر الثاني الشارح والمبيِّن للذكر الأول: (‌وَأَنْزَلْنَا ‌إِلَيْكَ ‌الذِّكْرَ ‌لِتُبَيِّنَ ‌لِلنَّاسِ ‌مَا ‌نُزِّلَ ‌إِلَيْهِمْ) (النحل: 44)، ومِن ثَمَّ فهي داخلة في وعد الله -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ‌الذِّكْرَ ‌وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).

4- أن منهج تفسير أي خطاب كهذا، يجب أن يستنِد إلى قواعد واضحة تمكِّن المتلقي من تفسير الكلام على مراد المتكلِّم، وهذا يشمل أمورًا:

- ما يذكره المتكلم مِن كلامٍ يفسر به كلامًا آخر.

- قواعد اللغة التي تكلَّم بها المتكلم وقت تكلمه بها.

- ما يذكره من قواعد يبيِّن بها حكم المسكوت عنه في كلامه.

وهذا وإن كان واجبًا في حق تفسير كلام البشر الذي له صفة الإلزام، فإلزامه ليس في ألفاظه، وإنما في المعاني التي أراد المتكلم أن يُلزم بها؛ فتطبيقه في كلام الله تعالى وكلام رسوله من باب أولى.

وتعظيمًا لأمر الكتاب والسنة وَضَعَتِ الأمةُ عِلْم "مصطلح الحديث"؛ الذي ما زالت تفاخر به البشرية.

ووضعت علم "أصول الفقه" فتعلمتْ منه البشرية قواعد تفسير النصوص التي يُحترَم مصدرها ودلالتها، فأخذوها ليستفيدوا منها في دنياهم في العقود والمعاملات، ثم صدَّروا لنا مناهج النقد الأدبي والنقد التراثي، وجعلوا ‌يَؤُزُّون أذنابهم ليطبِّقوها على أشرف كلام، وأصدق كلام، ويحرفوا بها الكَلِمَ عن مواضعه -والعياذ بالله-.

5- بيَّنَّا كيف أرشد الشرع إلى الاحتياط البالغ في منع اختلاط السنة بالقرآن؛ رغم أن كليهما ملزم، وعلى نفس الطريق سار أهلُ الحديث؛ فاحتاطوا جدًّا مِن اختلاط الشرح أو التفسير بالرواية، حتى عدوا من أقسام الحديث: "المدرج"؛ لكي يفتشوا ويخلصوا الحديث من أي كلمة تفسيرية أضافها أحد الرواة فظنها الناقل عنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلها في الحديث -مع أنها غالبًا ما تكون تفسيرًا صحيحًا-؛ لكن حفظًا للوحي وتنزيهًا له عن أن يدخله كلام أحدٍ آخر.

6- وإذا كانت الأمة قد احتاطت حتى لا تختلط أقوال الرواة التفسيرية بنصِّ الرواية؛ فما بالك بالأقوال والآراء؟! فقد روعي فيها تمامًا أن تُنسَب إلى قائليها، وأن يُعمَل فيها بقاعدة: "كلٌّ يؤخذ مِن قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم".

7- بيد أن القرآن قد بيَّن أن هناك آيات محكمات وأُخر متشابهات، وبالتالي: فقد تمكَّنت الأمة جيلًا بعد جيلٍ من ردِّ كل ما يخالف المحكم من الأقوال؛ فلم يقيموا لها وزنًا علميًّا، كالأقوال المشككة في الإسراء أو المعراج.  

وأما النصوص المتشابهة؛ فقد بيَّن الله أنه ما جعلها إلا فتنة وابتلاء، وبالتالي فقد قبلت الأمة البحث فيها بشرطين:

أولهما: أن يُتفق على أنها يجب أن تُبحَث على ضوء المحكم.

الثاني: ألا يخرج بها عن حدِّ التفسير الذي هو الاجتهاد في استكشاف مراد القائل من الكلام، إلى محاولة التحريف والتبديل، وإعمال الهوى؛ استثمارًا لكون المسألة ليس فيها دليل محكم.

ومَن حاد عن هذين الشرطين؛ فهو ممَّن وصفهم الله أن في قلوبهم زيغًا، ويأتي على رأس هؤلاء: الذين يطبِّقون مناهج النقد الأدبي، أو مناهج نقد التراث (بمفهومه الغربي) على الوحي المعصوم وعلومه، وهذا ما سنفرده بمقالة قادمة بإذن الله بعنوان: "مناهج نقد التراث الغربية وجنايتها على علوم الوحي".

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.