الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 28 فبراير 2022 - 27 رجب 1443هـ

ولكن كونوا ربانيين

كتبه/ أبو بكر القاضي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

من فقه السَّير إلى الله: أن يعيَ السائرُ إلى الله أن الطريقَ درجات ومدارج في الإيمان والعرفان بالرحمن تبارك وتعالى، وأنه منازل ومقامات ينتقل العبد من علو إلى أعلى وأرفع، وإن توقف عن السير فإنه ينتقل إلى سفل وأسفل، ولا توقف ولا سكون، بل هي الحركة الدائمة؛ إما إلى الأمام أو إلى الوراء "لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ". 

فالإيمان يزيد بالطاعات والقربات، وينقص بالمعاصي والمخالفات، قال أبو سليمان الداراني للجنيد: "إذا استوى يومك وأمسك، فأنت في نقصان"، فما بالك إذا نقص يومك عن أمسك كيف يكون الخسران؟ قال تعالى: "وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خسر . إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ".

فكل يوم معاملة جديدة ومذاق إيماني رغيد، وأحوال راقية مع الله تبارك وتعالى، فالعمر واحد لن يتكرر، وإنما سمى عمرًا ليعمر بذكر الله، والحياة معه، وقضاء الأوقات في قربه وولايته، والخضوع بين يديه، فهكذا تكون الحياة.

وما أجمل التدرج، وما أجمل تلك الربانية التي تأخذ بالصغار قبل الكبار! 

فما أحلى منزلة الحب بعد منزلة التوبة أو معها! 

وما أجمل منزلة الرسوخ بعد منزلة الكد في طلب العلم! 

وما أروع منزلة البلاغ المبين بعد تلقى الوحي من الله الكريم!

لا نحتاج ونحن الآن أمام هذا الجمال نطالعه ونكشف أسراره إلى الترهيب من القفز على التدرج المطلوب، والتشبع بما لم يعطَ الإنسان، كما صحَّ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور"، وقد قيل: "مَن تعجَّل شيئًا قبل أوانه عُوقب بحرمانه". 

كثير من الناس يريد أن يكون العلَّامة والفهامة، والولي والشيخ بدون تدرج، تغلبه نفسه الأمارة بالسوء على إرادة العلو حتى إن لم يرد فسادًا، ولا تصفو له الدار الآخرة إلا بالتخلي عن تلكما الإرادتين، "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ".

قال يحيى بن معاذ رحمه الله: "لا يفلح مَن شُمت منه رائحة الرياسة".

الروعة أن تكون قائدًا في كلِّ حالٍ أنت فيه، "إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة"، كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بطوبى لهذا العبد!

لا تلتفت إلى الأضواء وتجري وراءها وتلهث، فهذه أعمال دنيء الهمة، ولكن كن عظيمًا، بطلًا، فارسًا، ولا أخفيك سرًّا ، إذا عشت هذا المعنى لن تشعر بالأضواء والشهرة حتى إن جاءتك، ولن تفكر فيها أصلًا، بل سيكون همك هو مرضاة ربك ومراقبته والعمل من أجل رضاه، ولن تنظر إلى الألقاب والمدح والثناء، ولن تعيرها اهتمامًا، ستجر الأضواء أذيال الخيبة؛ لأنها لم تنل من قلبك الكبير -الذي وسع ملكوت السماوات والأرض، وتدفقت فيه شلالات الهدى والنور والوحي، فطيبته ورققته وأصلحته؛ فأصبح سليمًا مطيعًا لرب رحيم ودود تبارك وتعالى- بأدنى نظرة، وهنالك ستشعر بجمال الصلة بالله والأنس؛ حتى ولو لم يشعر أحدٌ بمكانك.     

قال أيوب السختياني: "والله ما صدق الله عبد إلا سره ألا يُشعر بمكانه".

ولن تشعر أخي بجمال التمكُّن والرسوخ؛ إلا إذا عانيت التدرج والارتقاء، وهذا هو طريق الربانية في العلم والعمل والدعوة.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الرباني مَن يأخذ صغار العلم قبل كباره".

لن تستطيع أن تعي وتفهم "المغني" في الفقه إلا بعد "العدة"، و"المنار". 

لن تجيد "الفتاوى" إلا بعد الأصول الثلاثة والفتح والمعارج، لن يجدر بك أن تتغنى بقراءات القرآن إلا بعد ختمة قراءة واحدة أولًا، وهكذا في بقية العلوم والفهم فضلًا عن الفقه والاجتهاد والفهم عن الله والاستقراء الذي يحتاج لطول مجاورة ومكث على العلم وعمر مبذول.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض".

أخـي لـن تـنـال العلم إلا بستة           سأنبيك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص وافتقار وغربة            وتلقين أستاذ وطول زمـان

لستُ بصدد شرح البيتين للحجة العلامة الإمام الشافعي، ولكن الشاهد قوله: (وطول زمان)، فالصبر ... الصبر به يرتفع القدر، "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ"، فلا داعي للتشنج في المذاكرة والحفظ وكأنك ستحصل العلم كله مرة واحدة، فكما سيأتي سريعًا سيذهب سريعًا، ولكن نحتاج إلى علو همة وجدية في الطلب مع رزانة في الفهم والتحصيل، سُئِل ابن سيرين: "كيف حصلت العلم؟ قال: مسألة وراء مسألة عبر الليالي والسنين"، وهكذا في خبرات العمل والدعوة.

ما أجمل أن نصبر ونصابر، ونرابط في سفرنا إلى الله وسيرنا إليه حتى نشتاق ونشتاق، فإذا فزنا بالوصول بعد الكدِّ نذوق طعم الجزاء، فيقول الله تعالى: "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ".

لا بد من جهد واجتهاد وصدق، وقد يسبق الإنسان ولا نحجر على أحدٍ، ولكن تبقى السنن الكونية والشرعية لا بد من اعتبارها، والسير في رحاب فهمها وفقهها وعدم مصادمتها؛ حتى نخلص لله، ولا ننجرف مع الأضواء وحب الظهور وشهوة العلو على الأقران حتى ولو تفاوتت القدرات والطاعات، فابذل كل طاقاتك في مواضعها، وأخلص قلبك لله تبارك وتعالى، ولا تضيع اللحظات، وليكن شعارك أن تعيش اللحظة في طاعة الله، فأنت لا تستطيع أن تسبح في نهر الحياة مرتين، ولتكن إذًا سباحة على بصيرة وصبر، مع مسابقة إلى الخيرات، وما أسرع اللحاق لمَن فهم معنى السباق.