الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 13 نوفمبر 2021 - 8 ربيع الثاني 1443هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (42) قصة إحياء الطيور الأربعة (2)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ‌أَرِنِي ‌كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).

قال الطبري -رحمه الله- في تفسير هذه الآية:

"عن الربيع، قال: ذبحهن ثم قطعهن ثم خلط بين لحومهن وريشهن، ثم قسَّمهن على أربعة أجزاء، فجعل على كل جبل منهن جزءًا، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبضعة إلى البضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم، ثم دعاهن فأتينه سعيًا، يقول: شَدًّا (أي: جريًا) على أرجلهن. وهذا مَثَل أراه الله إبراهيم، يقول: كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها.

وقال ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: إن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذ الأطيار الأربعة، ثم قطع كل طير بأربعة أجزاء، ثم عمد إلى أربعة أجبال، فجعل على كل جبل ربعًا من كل طائر، فكان على كل جبل ربع من الطاووس، وربع من الديك، وربع من الغراب وربع من الحمام. ثم دعاهن فقال: تعالين بإذن الله كما كنتم! فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه، ثم أقبلن إليه سعيًا، كما قال الله.

وقيل: يا إبراهيم هكذا يجمع الله العباد، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها، وشامها ويمنها. فأراه الله إحياء الموتى بقدرته؛ حتى عرف ذلك بغير ما قال نمرود من الكذب والباطل.

قال ابن زيد: (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا) قال: فأخذ طاووسًا، وحمامة، وغرابًا، وديكًا، ثم قال: فرقهن، اجعل رأس كل واحد وَجُؤْشُوشَ -أي: الصدر- الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه! فقطعهن وفرقهن أرباعًا على الجبال، ثم دعاهن فجئنه جميعًا، فقال الله: كما ناديتَهن فجئنك، فكما أحييتُ هؤلاء وجمعتهن بعد هذا، فكذلك أجمع هؤلاء أيضًا؛ يعني: الموتى. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم ميتة، فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها أن يُريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها. وقالوا: كانت سبعة أجبال.

عن ابن جريج قال: لما قال إبراهيم ما قال عند رؤيته الدابة التي تفرقت الطير والسباع عنها حين دنا منها، وسأل ربه ما سأل، (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ)، قال ابن جريج: فذبحها، ثم اخْلِط بين دمائهن وريشهن ولحومهن، (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا) حيث رأيت الطير ذهبت والسباع! قال: فجعلهن سبعة أجزاء، وأمسك رؤوسهن عنده، ثم دعاهن بإذن الله، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى، وكل بضعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رؤوس الجبال، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضًا في السماء، ثم أقبلن يسعين حتى وصلت رأسها.

عن السدي قال: فخذ أربعة من الطير فصُرْهُن إليك، ثم اجعل على سبعة أجبال، فاجعل على كل جبلٍ منهن جزءًا، ثم ادعهن يأتينك سعيًا! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير، فقطعهن أعضاء، لم يجعل عضوًا من طير مع صاحبه، ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا، وصدر هذا مع جناح هذا، وقسمهن على سبعة أجبال، ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه، ثم أقبلن إليه جميعًا.

وقال آخرون: بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبلٍ.

عن مجاهد: (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا) قال: ثم بددهن على كل جبلٍ يأتينك سعيًا، وكذلك يحيي الله الموتى.

عن الضحاك قال: أمره الله أن يخالف بين قوائمهن ورؤوسهن وأجنحتهن، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءًا.

عن الضحاك قال: فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن.

قال ابن جرير-رحمه الله-: وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد، وهو أن الله -تعالى ذكره- أمر إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك، وتبديدها عليه أجزاء؛ لأن الله -تعالى ذكره- قال له: (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا)، والكل: حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه، لفظه واحد ومعناه الجمع. (قلتُ: يعني: كلمة "كل" تدل على الجمع لكلِّ الأفراد التي تدخل تحته).

فإذا كان ذلك كذلك، فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيم بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة عليها خارجة من أحد معنيين: إما أن تكون بعضًا أو جميعًا؛ فإن كانت بعضًا فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم السبيل إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه، أو يكون جميعًا، فيكون أيضًا كذلك.

وقد أخبر الله -تعالى ذكره- أنه أمره بأن يجعل ذلك على كل جبل؛ وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن، وإما ما في الأرض من الجبال.

(قلتُ: ولا شك أنه معلوم أن إبراهيم لا يقدر أن يصل إلى جبال الأرض جميعًا، فيما يعتاد الناس فيه من القدرة، فالظاهر -والله أعلى وأعلم- أن البحث في عدد الجبال وفي تعيينها ليس مما له فائدة؛ ولكن كل جبل يصل إليه إبراهيم).

فأما قول مَن قال: إن ذلك أربعة أجبل، وقول مَن قال: هن سبعة، فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به. وإنما أمر الله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرقة على كل جبل؛ ليُري إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن، وهن متفرقات متبددات في أماكن مختلفة شتى حتى يؤلف بعضهن إلى بعض، فيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن، وقبل تفريق أجزائهن على الجبال، أطيارًا أحياء يطرن، فيطمئن قلب إبراهيم، ويعلم أن كذلك يجمع الله أوصال الموتى لبعث القيامة وتأليفه أجزاءهم بعد البلى، ورد كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الردى.

والجزء من الكل شيء هو البعض منه، كان منقسمًا جميعه عليه على صحة أو غير منقسم.

قال ابن جرير في تأويل قوله -تعالى-: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يعني -تعالى ذكره- بذلك: واعلم يا إبراهيم أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهن، وتفريقك أجزاءهن على الجبال، فجمعهن ورد إليهن الروح، حتى أعادهن كهيئتهن قبل تفريقهن = عزيزٌ في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة والمتكبرة الذين خالفوا أمره، وعصوا رسله، وعبدوا غيره، وفي نقمته حتى ينتقم منهم، حكيمٌ في أمره.

قال ابن إسحاق: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قال: عزيز في بطشه، حكيم في أمره. وقال الربيع: عزيز في نقمته حكيم في أمره" (انتهى من تفسير الطبري باختصارٍ يسيرٍ).

 والفوائد مطروحة المرة القادمة -إن شاء الله-.