الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 18 أكتوبر 2021 - 12 ربيع الأول 1443هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (38)‏ دعوة إبراهيم لملك زمانه للتوحيد (5)‏

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).

الفائدة الثامنة: قوله -تعالى-: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أوضح دليل على الإيمان بالقدر، وأن الهداية والإضلال بيد الله وحده، قال -تعالى-: (مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الأنعام:39)، وقال الله -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ‌يَشْرَحْ ‌صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام:125).

هو -سبحانه- وحده الذي جعل (لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112).

وهو -سبحانه- الذي جعل (لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (الفرقان:31).

وهو الذي جعل إبراهيم -عليه السلام- مقيمًا للصلاة ومن ذريته، وتقبَّل دعاءه.

وهو -سبحانه وتعالى- الذي وهب لإبراهيم إسحاق ويعقوب -عليهما السلام- نافلة، وجعلهم أئمة يهدون بأمره، كما قال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء:73).

وقال -عز وجل- عن المشركين: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ? وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (الأنعام:107).

وقال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ ‌مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام:123).

وقال -سبحانه- آمرًا المؤمنين أن يقولوا في فاتحة الكتاب: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:6-7).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ قَلْبٍ إلّا وهو بينَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أصابِعِ رَبِّ العالَمينَ، إنْ شاءَ أنْ يُقيمَه أقامَه، وإنْ شاءَ أنْ يُزيغَه أزاغَه، وكان يقولُ: يا مُقلِّبَ القُلوبِ ثبِّتْ قُلوبَنا على دِينِكَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

وقد بيَّن -سبحانه- في هذه الآية: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أن مَنْعَه الهداية عن القوم الظالمين المستلزم لإضلالهم وضلالهم، إنما يقع على مَن يناسبه، وبسببٍ منه وهو: "الظلم".

وإن كان زيغ العباد بين إزاغتين من الله:

إزاغة أولى: قدَّرها الله عليهم؛ لأنه أعلم بهم وبما يناسبهم، وقد وقعت من خلال إرادتهم وقدرتهم التي بها فعلوا أفعالهم الخبيثة، لم تقع إكراهًا عليهم، ولا وقعت أفعالًا اضطرارية: كخلقهم، وإحيائهم وإماتتهم، ومرضهم، ودق قلوبهم، بل هم قد عملوا أفعالهم الاختيارية بمشيئتهم وقدرتهم (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) (فصلت:40)، وإن كان ذلك بمشيئة الله -عز وجل- وقدرته، وقضائه وقَدَره.

وأما الإزاغة الثانية: فهي بسبب زيغهم الأول، قال -تعالى-: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (الصف:5)، فهذه الإزاغة الثانية عقوبة فسقهم وظلمهم الذي أصروا عليه بعد بلوغ الحجة الرسالية لهم؛ رغم ما أعطاهم الله -سبحانه- من العقول والأسماع والأبصار، قال -تعالى-: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الأحقاف:26).

أما الإزاغة الأولى فهي بعلم الله بمَن يناسبه الشكر، وبمَن يناسبه الظلم، فهو أعلم بالشاكرين، وهو أعلم بالظالمين.

فاحذر -أيها المؤمن- أن تقع فيما وقع فيه كثير مِن الناس مِن جعلهم إرادة الله تابعة لإرادة العباد، كمَن يقول: قد علم الله أنهم سيختارون أو سيريدون الكفر؛ فلذلك أراد لهم الكفر، وهذا خلاف نص القرآن، قال الله -تعالى-: (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير: 28-29)، وقال -تعالى-: (فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ . وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر:55-56).

فالله هو الأول الذي ليس قبله شيء، كان الله ولم يكن شيء غيره، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو الخالق البارئ المصور؛ هو الذي قدَّر وجود المخلوقات قبل خلقها على الصورة التي يريد أن يخلقها عليها، ثم أوجدها من العدم إلى الوجود فهو بارئها، ثم أعطى كلَّ واحد منهم شكله وصورته فهو المصور، وقد دخل في المخلوقات التي كانت عدمًا أفعال العباد وقدراتهم وإراداتهم؛ فيستحيل شرعًا وعقلًا أن يكون الخالق تابعًا للمخلوق.

وفي هذا الأمر يضل أقوامٌ وتزل أقدام؛ فبعضهم يتهم الله بالظلم، وكثيرًا ما يوسوس شياطين الإنس والجن بذلك، والمفزع دائمًا في رد الشبهة أن الله لم يظلمهم، كما قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (النساء:40).

 وهو -عز وجل- مالك كل شيء، وهو لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون؛ لأنه يضع الأشياء في مواضعها، لا لأنه يتصرف خلاف الحكمة أو خلاف العدل؛ بل لأنه -سبحانه وتعالى- وضع كل شيء في موضعه، ولم تقع أفعالهم القبيحة إلا بإرادتهم وقدرتهم، وكونها مخلوقة لا يعني أنها عديمة الأثر؛ ولذا كان مذهب الأشاعرة في الكسب -مِن اقتران الإرادة الإنسانية الحادثة المخلوقة بالفعل البشري من غير أثر- من أكبر أسباب انتصار حجة الملاحدة عليهم، أو اللجوء إلى عقيدة نفي القدر، وكلاهما -والله- باطل شرعًا وعقلًا، وفطرة وضرورة.

 كما أن كسب الأشعري الذي رجع عنه -إن شاء الله- باطل حسًّا وعقلًا وشرعًا، فالفرق بين الأفعال الاختيارية الواقعة بالقدرة والإرادة أمر محسوس؛ فضلًا عن نصوص القرآن في إثباته، فقد ذكر الله عن العباد أنهم يفعلون ويعملون، ويكسبون ويصنعون، ونسبة أفعالهم إليهم أكثر من أن تحصر بيُسْر.

وكما ذكرنا فالرد الواضح البيِّن أنه -سبحانه- هو أراد أن تكون أفعالهم بقدرة وإرادة منهم، ولو شاء لجعلهم كالسماوات والأرض والجبال؛ أرادت مرة واحدة ثم انقادت، ولو شاء لجعل كل أفعالهم اضطرارية: كوجودهم وموتهم، وحركة قلوبهم، وأجزاء أجسامهم، لكنه شاء أن تكون أفعالهم بمشيئتهم وقدرتهم، وعلى قدر ما أعطاهم من القدرة والإرادة، وسلامة الحواس وبلوغ دعوة الرسل يحاسبهم، كما جعل الله الأب والأم سببًا في وجود الولد، وهما لم يخلقانه قطعًا، لكنهما سبب وجوده؛ ولذا قَبِل كل العقلاء في العالم مسؤوليتهم عن طفلهم الذي أنجبوه ولم يخلقوه، وكذلك أفعالهم نتجت عن إرادتهم وقدراتهم وحواسهم، ولم تخلقها هذه الإرادات والحواس، بل الله خالق الأب والأم والولد منهما، وهو كذلك خالق القدرة الإنسانية والإرادة الإنسانية والفعل الإنساني منهما.

ثم تأتي شبهة أخرى في هذا المقام للملاحدة والمبتدعين، وهي: فلماذا هدى الله فريقًا وأضل فريقًا؟ وهو طعن في الحكمة، واقتراح أن يكون العالم كله على نمطٍ واحدٍ.

والجواب: أن هذا التنويع في الخلق مقتضى الربوبية، كما قال -تعالى-: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى . وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى . وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى . إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (الليل:1-4).

فورود الليل والنهار مختلفان وأحوالهما مختلفة من الغشي والتجلي، والذكر والأنثى مختلفان، وذلك كله من تمام الحكمة والمصلحة، والمقاصد المحمودة، وبدون هذا الاختلاف لا تستمر الحياة.

فكذلك السعي الشتى والأعمال المختلفة، فإن مقتضى وجود الحياة البشرية هي الامتحان بالطاعة وسط الفساد في الأرض وسفك الدماء، وليس الطاعة وسط الطائعين كعالم الملائكة، أو دون إرادة كطاعة السماوات والأرض والجبال، أجابت طائعة مرة واحدة ثم هي مُسيَّرة بأمر الله وإرادته، قال الله: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَ?لِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ . ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ . فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ... ) (فصلت:9-12).  

وقال: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا . لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب:72-73).

ثم تأتي شبهة أخرى مردها أيضًا إلى الطعن في الحكمة، وهي: لماذا جعل الله المهتدي مهتديًا والضال ضالًّا، ولم يجعل أحدهما مكان الآخر، مثل قول كفار قريش: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف:31)، ومثل قولهم عن المؤمنين: (أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا) (الأنعام:53)، ومثل قولهم: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) (الأحقاف:11)؟

فنقول: أولًا: هو لم يظلم الضال والظالم والكافر؛ لأنه أعطاه العقل والسمع والبصر، والقدرة والإرادة، وبلَّغه دعوة الرُّسُل -كما سبق أن بيِّنَّا-.

ثم ثانيًا: هو وضع الأشياء في موضعها، وهذا هو العدل؛ فليس العدل المساواة بين المختلفات، ولا التفرقة بين المتساويات، بل العدل وضع كل شيء في موضعه، فلو أن رجلًا عنده أرض طيبة وأرض خبيثة، وعنده بذر طيب وبذر خبيث، أو زبالة وحشائش وفضلات تضر الزراعة، فلو وضع البذر الطيب في الأرض الطيبة، والبذر الخبيث أو الزبالة والفضلات الضارة في الأرض الخبيثة؛ كان حكيمًا عادلًا، يُثنَى عليه ويُمدَح تصرفه، ولو فعل العكس لكان طائشًا سفيهًا، فمَن طالبه بخلاف الحكمة أو استنكر خلاف العدل الحقيقي بزعم المساواة وأنه كان ينبغي أن يعطي كل أرض البذر الطيب، ويضع الفضلات الضارة والبذر الخبيث في كلا الأرضين؛ كان جوابه الانصراف عنه لجهله، وضعف عقله، بل انعدامه.

ونسأل الله الهداية والتوفيق لذكره، وشكره، وحسن عبادته.