الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 30 سبتمبر 2021 - 23 صفر 1443هـ

علامات يقظة القلب في أزمنة الغفلة

كتبه/ إبراهيم جاد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن المقصد الحقيقي والهدف الأسمى لهذه الكلمات: أن نتذاكر معنا على أرض الواقع -بعيدًا عن التنظير-: علامات يقظة القلب بطريقة عملية واقعية، ولا يعني هذا أننا كذلك، بل نتمنى على الله بفقرٍ وصدقٍ أن نكون كذلك، وأن يمن علينا ولو ببعض منها، ونتوسل إليه خاشعين متذللين أن يرزقنا اليقظة والفطنة لمراده ولطريقه، ولصالح أمره في وسط ركام الغفلات، وسبات الملهيات، وسوق الشهوات والشبهات، فما والله أحوجنا إلى ذلك وأفقرنا إليه! فهو نعم المولى ونعم النصير.

قال الله -جل وعلا-: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (الأنبياء:1)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنَ الْقُلُوبِ قَلْبٌ إِلَّا وَلَهُ ‌سَحَابَةٌ ‌كَسَحَابَةِ ‌الْقَمَرِ، بَيْنَمَا الْقَمَرُ مُضِيءٌ , إِذْ عَلَتْ عَلَيْهِ سَحَابَةٌ فَأَظْلَمَ , إِذْ تَجَلَّتْ عَنْهُ فَأَضَاءَ) (أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، وحسَّنه الألباني).

إن مِن نعم الله الجلية وعطاياه العلية، وتوفيقه لعبدٍ مِن عباده في البرية: أن يرزقه بقلب حي ينبض بالتوحيد، ويدق بنبضات الإيمان، ويُملأ بحب الله -تعالى-، واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبالتضحية والفداء لهذا الدِّين بالمال والنفس والولد، وإنها -وربي- لنعم ما تُقَدَّر بأثمانٍ ولا كنوزٍ، ولا أعمارٍ!

- أن تحيا بين الناس في أزمنة تعلوها الفتن يقظًا منتبهًا للمصير الأخروي، فتعد العُدَّة؛ تلك نعمة مِن الله عليك.

- أن تعرف أنك مسؤول، وستُحَاسَب على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، وعظيمةٍ وحقيرةٍ، فتعد للسؤال جوابًا؛ تلك نعمة مِن الله عليك.

- أن تفهم طبيعة الدنيا وفلسفتها، فتعرف أن لا منصب فيها يدوم، ولا مال مهما عظم يغني، ولا لذة فيها تستمر، ولا متعة لها تفدي أبدًا من عذاب الله شيئًا إذا كانت في غير مرضات الله -تعالى-.

- أن تزرع زرعًا له ثمار في الدنيا بالنفع وفي الآخرة بالأجر، فتلك نعمة من الله عليك.

- أن تقاوم الحرام بالحلال فتقف صلدًا قويًّا في وجه الرشوة والربا، والسحت، وأي أكل مال بالباطل، وغير ذلك؛ فتلك نعمة من الله عليك.

- أن تموت كمدًا وحسرة لو ضاعت منك صلاة واحدة من صلوات الجماعة؛ فتلك نعمة من الله تعالى عليك، فكم مِن مفرطٍ ومقصرٍ، وتاركٍ لها لم يتأثر!

روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة -رضي اللهُ عنهم-: أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ).

- أن تحترق لآلام هذه الأمة، فتعيش همها، وتُحيي بداخلك قضاياها، وتحاول بالعلم والحكمة أن تخفف مصابها؛ فتلك نعمة من الله -تعالى- عليك.

- أن تواظب على وردك من كتاب ربك اليومي، وأن تحكِّم القرآن في أفعالك وأقوالك، وأن تنشِّئ أبناءك عليه وعلى حفظه وتلاوته، وتجعله لديهم أول الاهتمامات وأعظم المطالب، فتدفع من أجله أغلى الأموال وأفضل الأوقات؛ فتلك نعمة من الله عليك.

- أن تنشئ أولادك على القِيَم الإسلامية، والأخلاق المحمدية، والمنهج المستقيم وسط هذا الغثاء، فيعظموا حرمات الله -تعالى-، فلا مكان في قلوبهم للغناء المحرم والموسيقى الصاخبة، ولا أفلام ولا المسلسلات؛ فتلك نعمة من الله عليك.

- أن تحافظ على علاقاتك بين أرحامك وجيرانك وأهلك وزوجتك بما يرضي ربنا في وقتٍ كثُر فيه الهجران وعظمت فيه القطيعة؛ فتلك نعمة من الله عليك.

- أن ترزق الصبر والرضا والقناعة والتسليم؛ خاصة في وقت الفاقة والمصيبة بقضاء الله -تعالى- وقدره، فيلهث لسانك بالحمد مهما اشتدت البلايا، وعظمت المصائب؛ فتلك نعمة من الله عليك.

- أن تستغل وقتك وتنظِّم عمرك، وترتب حياتك وتشغل عقلك وعلمك بما يفيدك دنيا وأخر؛ فتلك نعمة من الله عليك. سُئِل ذو النون: "ما أساس قسوة القلب للمريد؟ فقال: ببحثه عن علوم رضي نفسه بتعليمها دون استعمالها، والوصول إلى حقائقها" (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم).

- أن يلهث لسانك بذكر الله -تعالى- في جميع الأوقات والأحوال، فسبحان الله! رجل يسافر ساعات وساعات ولسانه صامت، ورجل يمشي وحيدًا لساعات ولسانه صامت، وغير ذلك كثير ... !

فاللسان مصنع يخرج مليارات من الحسنات أو السيئات، فإذا كنت ذاكرًا؛ فتلك نعمة من الله عليك، قال -تعالى-: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِين) (الأعراف:205).

- أن تعظم الخلوات فتجعلها في رضا رب الأرض والسماوات، فما أكثر خلوات العصر، وما أشد وقعها على القلوب! فأن تتسلح بسلاح مراقبة الله -تعالى- وتعظيمه فيها؛ فتلك نعمة من الله عليك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌خَافَ ‌أَدْلَجَ، ‌وَمَنْ ‌أَدْلَجَ ‌بَلَغَ ‌المَنْزِلَ، ‌أَلَا ‌إِنَّ ‌سِلْعَةَ ‌اللَّهِ ‌غَالِيَةٌ، ‌أَلَا ‌إِنَّ ‌سِلْعَةَ ‌اللَّهِ ‌الجَنَّةُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال عامر بن عبد القيس -رحمه الله-: "ما نظرتُ إلى شيءٍ إلا رأيت الله -تعالى- أقرب إليه مني".

- أن تُعرَف بين قومك وأهلك وزملائك بصفات أهل الإيمان: كالجود والكرم، والالتزام بالمواعيد، وحفظ الحقوق، ومعرفة ما لك وما عليك، وحفظ اللسان عن أعراض الناس، وأن تكون سببًا لنفعهم دون مَنٍّ أو معايرة خالصًا لوجه ربك؛ فتلك نعمة من الله عليك.

- أن تستعد للموت فتراه أمامك وعلى بابك، وأقرب غائب يزورك، فتجدد التوبة والأوبة، وترد المظالم؛ فتلك نعمة من الله عليك، فكم من نادم متأسف بعد فوات الأوان! قال -عز وجل-: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون:99- 100).

- أن تجعل جزءًا من ليلك ولو يسيرًا لله -تعالى- قيامًا وذكرًا واستغفارًا؛ فتلك نعمة من الله عليك، فما أكثر الساهرين وما أقلهم قيامًا!

روى ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم- بسند ٍصحيحٍ: أن النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: (مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ).

وأخيرًا يا عباد الله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد: 20).

فاللهم ارزقنا العلم والقول والعمل، وارفع عنا ما يضرنا في الدنيا والآخرة، وجنِّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن.