الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 30 أغسطس 2021 - 22 محرم 1443هـ

صناعة الوهم!

كتبه/ أحمد حسين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكانت -وما زالت- صناعة الوهم صناعة مِن أهمِّ وأربح الصناعات، وهي صناعة اللا شيء، صناعة البالون عوضًا عن كيس الرمل، البالون وزنه أخف وصناعته سهلة، يزداد حجمه في ثوانٍ ولا يحتاج إلى كثير جهدٍ، ولا كثير علم؛ قد يحسنه الصغير أفضل من الكبير، وضع تحت هذه ألف خط!

شيوخ طريقة صناعة الوهم في المجال الثقافي والإعلامي متشابهون في تعاملهم مع الفرد والجماعة، وأساليب الشغل، لكنهم لا يخرجون عن مجالهم؛ فخاماتهم منهم وفيهم، ولديهم اكتفاء ذاتي في كل شيء، فلغة الكذب جاهزة وعلى أعلى المستويات، والمكذوب عليه على أتم الاستعداد لتقبُّل ذلك، بل ويستمتع بالوهم، وكثيرًا ما يدفع مقابل ذلك، وحبال الغسيل جاهزة للنشر.

والمفارقة الفاقعة: أن هؤلاء المدلِّسين موهوبون، ويمتلكون أدوات متطورة تواكب العصر، ويتمتعون بلغة جزلة وشاعرية أحيانًا، وبحرفية صحافية عالية، مما يؤهلهم لصناعة وهم يشبه الحقيقة، فهل ثمة فرق بين وهم ووهم؟!

ربما شكل الوهم يختلف في صناعته بين إعلامي وآخر: فقد ينفخ أحدهم في شاعرٍ ما، وينفخ وينفخ حتى يحوله إلى طبل أجوف، وقد يلبس آخر عباءة لروائي أكبر من جسده النحيل بكثيرٍ فيتعثر بها في خطواته الأولى، وربما يطلق آخر على كاتب ما ألقابًا تصل به لمصاف المقدسين، فتختلط عليه الأمور ويتلعثم بكفره!

صناعة الوهم طالت جميع المجالات: فبعد أن كانت تصارع في مجال الدنيا والمال والإعلام، صارت تحقق بعض النجاحات الزائفة المؤقتة في مجال العلم الشرعي والدعوة إلى الله! نعم حتى هذا طالته يد العبث والحداثة، وصار التخفف من مشقة التعلُّم التي يؤجر عليها لا تجد قبولًا عند الكثيرين، فكان البديل: "صناعة الوهم!".

فأصبح بدلًا من أن تمكث شهورًا أو سنوات في حفظ كتاب الله، وفي حفظه تحفظ على الأمة دينها مِن التحريف والتبديل، وهي إحدى طرق حفظ الذكر الحكيم، وبدلًا من دراسة متأنية منهجية طويلة للفقه وأصوله؛ من الممكن أن تستعيض عن ذلك بإحدى دورات التدبُّر، ولا مانع من الأسماء الجذابة لجذب المتابع كعلبة هدية فخمة قد لفت بحرير، وهي فارغة من الداخل، وكأن ثَمَّ تعارض بين حفظ كتاب وبين تدبره، وإن كان عمل التدبر وغايته هو إمرار المعنى على القلب مرة بعد مرة حتى يحصل خشوع القلب الذي يترتب عليه عمل، لا كما يكتفي هؤلاء الدجالون بالاكتفاء بالمعاني الجمالية للآيات وبلاغة النظم، فكان التدبر عندهم هو إقامة الحروف دون الحدود.  

وفي الحقيقة: أغلب مشاريع التدبر طواحين هواء، وصناعة للوهم؛ فكيف يتدبر القرآن من لا يحسن قراءته فضلًا عن حفظه، إنها رتابة وسَوءة التنمية البشرية، ومضمونها: حتى يعجبك زيد يكون الذم في عُبيد! فزيد في الحقيقة ضعيف، ولكن لو كان عُبيد عندك أضعف راجت سلعتي وعظم في عينك زيد، يقولون: أنتم لم تفقهوا ما نقول، وسترون نتاجنا بعد قرون أو يوم يبعثون!

ففي الحقيقة: إن الأمثلة على ذلك كثيرة، ولن نبتعد كثيرًا في الزمن، ولن نخوض عميقًا في التاريخ، فكم سمعنا مَن أهو أشعر مِن المتنبي، وفي الحقيقة يتقيأ علينا كلامًا تسميته من باب الكلام فضلًا عن الشعر تعد مجازًا؛ لماذا تلقى هذه التدليسات والتلحيسات رواجًا عند الناس؟!

هل لضحالة الموضوع وهزاله حتى سامه المفلسون؟!

أهم الأسباب في رأيي لنجاح صناعة الوهم: "العنصر الاقتصادي"، وهو حقًّا أهم أسباب صناعة الوهم، من الدعاية المبالغ فيها، وإنفاق الأموال دون تريث أو تعقل.

إن صناعة الوهم بدأت في منتصف السبعينيات بالتزامن مع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي قبل انهياره، وظهرت في هذه الفترة نظريات كثيرة في العلوم الإستراتيجية، وأشهرها: نظرية "الردع"، والتي أسس لها في مؤلفاته "هنري كيسنجر" وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، والتي تتمثَّل في تحقيق كل ما تريد بقوة السلاح دون استخدامه.

ولفت إلى أن صناعة الوهم كانت بعيدة عن الأنظار لفترة حتى صدر كتاب مهم عام 1973، وهو كتاب: "المتلاعبون بالعقول" للكاتب هربرت شيللر؛ موضِّحًا أنه في هذا الكتاب وُضِعت نظرية التأثير على عقول الشعوب بأسلحة الإعلام والسينما والدعاية والإعلان، وتحويل المجتمعات البشرية لمجرد دُمى يتم التلاعب بها، وكما قيل: "لطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود"، فقد يُقبل الدجل والوهم مِن كلِّ أحدٍ، ولكن قبوله ممَّن توشَّح عباءة الدِّين ورداء العلم، أقبح وأشد ضررًا.