الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 16 أغسطس 2021 - 8 محرم 1443هـ

الفساد (101) أين دور الزراعة في الاقتصاد المصري؟ (3)‏

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فيعتني الإسلام بالزراعة عناية خاصة تتضح من خلال عشرات الآيات القرنية والأحاديث النبوية عن الزراعة، وما يتعلق بها من أحكامٍ وردت في الشرع.

ففي الحث على غرس الزرع، وثواب مَن زرع زرعًا ينتفِع به الناس جاء في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا، وَلَا يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ، وَلَا دَابَّةٌ، وَلَا شَيْءٌ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً) (رواه مسلم)، وفي رواية له: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ -أي: ينقصه- إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ). وفي رواية له أيضًا: (فَلَا يَغْرِسُ الْمُسْلِمُ غَرْسًا، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ، وَلَا دَابَّةٌ، وَلَا طَيْرٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).  

وبلغ من اهتمام الشرع بشأن الزراعة بذاتها ما ورد في السنة النبوية، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، فإن هذه الفسيلة لن يدرك أحد نفعها مع قيام الساعة إذ تحتاج زمنًا طويلًا لنمائها والانتفاع بثمرها.

وبلغ من تنبيه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأتباعه إلى فضل الزراعة وشدة حب أتباعه لها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن البعض منهم قد اشتهى الزراعة وهو في الجنة، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يومًا يحدِّث أصحابه وعنده رجل أعرابي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ -أي: ألست تعيش في جنة فيها ما شئت من زروع وثمار- قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَيْءٌ) فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ لاَ تَجِدُهُ إِلَّا قُرَشِيًّا، أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.  

فإن قيل: هل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ -المراد الاشتغال بالحرث- وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، ذم للزراعة والعمل بها؟

فالجواب: بالقطع لا، وإنما المذموم هو الانشغال بالزراعة عن الجهاد في سبيل الله تعالى، فالجهاد -جهاد الطلب أو جهاد الدفع- فرض كفاية، وقد يتعيَّن في أحوالٍ أو على أفرادٍ، فلا يجوز التقصير فيه، فالجهاد فرض كفاية وفيه إظهار الدِّين وعز الإسلام، والزراعة فرض كفاية وفيها إغناء المسلمين بحاجاتهم من الطعام والغذاء، فلا يصح الانشغال بهذا عن ذاك، والمسلمون ينبغي ألا تمنعهم عبادة أو تأسرهم عادة عن القيام بفروض الدين، سواء فروض العين أو فروض الكفاية، فلا يشغلهم الجهاد في سبيل الله -تعالى- عن قيام طائفة منهم بطلب العلم الواجب وتعليمه للأمة، قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)، ولا تشغلهم تجارة أو بيع عن أداء الصلوات المفروضة، قال -تعالى-: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ . رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ . لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (النور:36-38)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة:9).

قال الشوكاني -رحمه الله-: "وقد حمل هذا على الاشتغال بالزرع في زمنٍ يتعين فيه الجهاد".

وأضاف: "قوله: (وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ) أي: المتعين فعله" (نيل الأوطار).         

الزراعة من نعم الله على عباده:

وفي بيان أن الزراعة التي تزخر بها الأرض نعمة كبرى، ومنة عظمى من الله -تعالى- على عباده؛ إذ لا غنى للإنسان وما يمتلكه أو ينتفع به من الحيوانات والطيور عن هذا الزرع؛ إذ قوام الحياة عليه، وبه تزدهر الحياة، يقول -تعالى-: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ . أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا . ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا . فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا . وَعِنَبًا وَقَضْبًا . وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا . وَحَدَائِقَ غُلْبًا . وَفَاكِهَةً وَأَبًّا . مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) (عبس:24-32)، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ . فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ . وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (المؤمنون:18-20).

والمقصود بالشجرة هنا: شجرة الزيتون (وخص طور سيناء بإنباتها فيه مع أنها تنبت فيه وفي غيره؛ لأنها أكثر ما تكون انتشارًا في هذه الأماكن، أو لأن منبتها الأصلي كان في هذه الأماكن، ثم انتقلت منه إلى غيره من الأماكن الأخرى. وقوله -سبحانه-: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) بيان لمنافع هذه الشجرة على سبيل المدح والتعليل لإفرادها بالذكر. والدهن: عصارة كل شيء ذي دسم، والمقصود به هنا زيت الزيتون. ولفظ الصبغ في الأصل يطلق على الشيء الذي يصبغ به الثوب. والمراد به هنا: الإدام الذي يحلو معه أكل الخبز والطعام. أي: أن مِن فوائد هذه الشجرة المباركة أنها يُتَّخَذ منها الزيت الذي ينتفع به، والإدام الذي يحلو معه أكل الخبز و الطعام).

وفي الحديث الشريف عن مالك بن ربيعة الساعدي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، (راجع رسالة: حديث القرآن والسنة عن الزراعة، د. محمد سيد طنطاوي - هدية مجلة الأزهر - عدد ذي الحجة 1421 هـ، ص 45 - 46)، فكل هذه الألوان من النعم إنما جاءت عن طريق الزراعة، يذكِّر الله عباده بها؛ ليزداد العبد شكرًا لله -تعالى- الواهب لهذه النعم.

وهذه النعم من الثمار والفواكه التي يتنعم بها الإنسان في الدنيا هي أيضًا ينعم الله بها على عباده المؤمنين، يتمتعون بها أيضًا في جنات النعيم في الآخرة، مع الفارق بين نعم الدنيا ونعم الآخرة، يقول -تعالى-: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:25).

في الزراعة أمثال وحكم:

فمِن الجوانب التي اهتم القرآن الكريم بإبرازها وهو يتحدث عن الزراعة في مختلف مراحلها وصورها، جانب ضرب الأمثال بها؛ لشدة ارتباط الإنسان وتعلقه بها، (وضرب الأمثال من أنجح الأساليب، ومن أفضل الوسائل في هداية النفوس، وفي إقناع العقول، وفي تذكير الناس بما يجب عليهم نحو خالقهم -عز وجل- ونحو أنفسهم ونحو ذلك) (المصدر السابق، ص 17).

ومن تلك الأمثلة: قوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) (إبراهيم:24- 26).

ومن الأمثلة البليغة في بيان سمو منزلة الذي ينفقون أموالهم في وجوه الخير والبر مثلًا ضربه القرآن الكريم عن طريق ذكر الحبوب والسنابل والزروع، في قوله -تعالى-: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:261).

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله -تعالى- لأصحابها كما ينمي الزرع لمَن بذره في الأرض الطيبة". مع ما فيه من تنبيه ولفت الأنظار إلى نعمة زرع الحبوب، وكثرة إنباتها.

الزراعة فيها دلالة على وحدانية الله وقدرته:

قال د. سيد طنطاوي: "مما قرأناه من علماء النفس والاجتماع: أن البلاد التي غالبية سكانها يشتغلون بالزراعة يكونون في الأغلب أكثر من غيرهم في إخلاص العبادة لله الواحد القهار، وفي التقرب إليه بالدعاء والاعتماد عليه -عز وجل- في أمور معاشهم. ولعل ذلك مرجعه إلى أن حراثة الأرض وإلقاء البذور، وانتظار خروج النبات منها، ثم تعهد هذا بالرعاية حتى يؤتي ثماره؛ كل ذلك يعين على التقرُّب إلى الله -تعالى- بالطاعة والدعاء، ما يعين على التذكر والاعتبار.

ولقد ساق القرآن صورًا متنوعة، وأدلة متعددة على وحدانية الله -تعالى- وقدرته عن طريق هذه الزراعات التي تزخر بها الأرض في المشارق والمغارب، ومن ذلك قوله -تعالى-: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ . أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ . لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ . إِنَّا لَمُغْرَمُونَ . بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (الواقعة:63-67) (المصدر السابق، ص 29).

(وشبيه بهذه الآيات الكريمات في بيان الأدلة على وحدانية الله -تعالى-، وعلى نفاذ قدرته ومشيئته: قوله -سبحانه-: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ . وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ . لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ) (يس:33-35). والمقصود بالآية هنا: العلامة والبرهان والدليل) (راجع المصدر السابق، ص31-32).

(ومن الآيات الكريمة التي ساقها القرآن الكريم كدليل على وحدانية الله وقدرته: قوله -تعالى-: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد:4).

(والمعنى: أن مِن مظاهر قدرة الله، ومن الأدلة على وحدانيته: أنه جعل في الأرض بقاعًا كثيرة متجاورة، ومع ذلك فهي مختلفة في أوصافها وفي طبيعتها، وفيها أيضًا بساتين كثيرة من أعناب، ومن كلِّ نوع من الحبوب، وفيها كذلك نخيل يجمعها أصل واحد؛ فهي صنوان، ونخيل أخرى لا يجمعها أصل واحد، فهي غير صنوان، والكل يسقى بماءٍ واحدٍ، ومع ذلك؛ فإننا لعظيم قدرتنا وإحساننا نفضِّل بعضها على بعض في اختلاف الطعوم؛ إن في ذلك الذي فعلناه لعِبَر عظيمة لقوم يستعملون عقولهم في التفكير السليم، وفي التأمل النافع) (المصدر السابق، ص34-35 بتصرفٍ).

زكاة الزروع تكفل حد أدنى من الغذاء للجميع:

من أهم التوجهات التي وجهها القرآن الكريم إلى أتباعه وهو يحدثهم عن الزروع والثمار: أمره لهم بأداء حق الله *عز وجل- فيها عند حصادها؛ نرى ذلك في قوله -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام :141)، فإعطاء كل زارع جزءًا من زرعه -بعد بلوغ النصاب- صورة رائعة من التكافل الاجتماعي، ومنح الفقير حدًّا أدنى من الطعام الذي يشبعه، فتكفل الزراعة في الإسلام إن قام الزراع بحق زكاتها -إلى جانب باقي أنواع الزكوات والصدقات- كفاية الفقراء في المجتمع المسلم؛ لذا قيل: وجود فقراء في المجتمع دليل على تقصيرٍ من الأغنياء في إخراج ما عليهم من الزكاة.

وعن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (فِيمَا سَقَتِ الْأَنْهَارُ، وَالْغَيْمُ الْعُشُورُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ) (رواه مسلم). والغيم: هو المطر.

قال أبو عبيد: هو ما جَرَى من المياه في الأنهار، وهو سيل دون السيل الكبير.

وقال ابن السكيت: هو الماء الجاري على الأرض.

والعشور جمع عشر، أي: إخراج عشر الزرع زكاة للفقراء. والسانية: هي البعير الذي يستقى به الماء من البئر، ويقال له: الناضح.

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ) (رواه البخاري). وما سقت السماء: المراد بذلك المطر. والمراد بالعيون: الأنهار الجارية التي يستقى منها من دون اغترافٍ بآلة، بل تساح إساحة. وعثريا: الذي يشرب بعروقه من غير سقي، زاد ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى: وهو المستنقع في بركة ونحوها، يصب إليه ماء المطر في سواق تسقى إليه. قال: واشتقاقه من العاثور، وهي الساقية التي يجري فيها الماء؛ لأن الماشي يتعثر فيها. ومثله الذي يشرب من الأنهار بغير مؤونة، أو يشرب بعروقه، كأن يغرس في أرض يكون الماء قريبًا من وجهها، فتصل إليه عروق -أي جذور- الشجر فيستغني عن السقي. والنضح: أي: بالسانية، أي: البعير الذي يستقى به الماء كما ذكرنا من قبل.

قال الشوكاني -رحمه الله-: "والحديثان يدلان على أنه يجب العشر فيما سقي بماء السماء والأنهار ونحوهما، مما ليس فيه مؤونة كثيرة، ونصف العشر فيما يقي بالنواضح ونحوها مما فيه مؤونة كثيرة" (راجع في ذلك (نيل الأوطار للشوكاني، ج 4 باب زكاة الزرع والثمار).

ويدخل في الإطعام الواجب للفقير: إطعامه من الحبوب من غالب قوت أهل البلد مما يكال ويدخر في زكاة الفطر من رمضان، وهذا الإطعام طهرة للصائم مما وقع منه في رمضان، وطعمة للفقراء والمساكين تغنيهم عن السؤال في عيد الفطر، وهو يقابل إعطاء لحم الأضاحي للفقراء في عيد الأضحى، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ" رواه الجماعة، "وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي التَّمْرَ إِلَّا عَامًا وَاحِدًا أَعْوَزَ التَّمْرُ، فَأَعْطَى الشَّعِيرَ".

وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ" (متفق عليه). وفي رواية: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ" (متفق عليه). والمراد بصاعٍ من طعام أي: صاع من الحنطة، فقد كانت لفظة الطعام تستعمل في الحنطة عند الإطلاق، حتى إذا قيل: اذهب إلى سوق الطعام فُهِم منه سوق القمح (راجع: نيل الأوطار للشوكاني، باب زكاة الفطر).

الزراعة في الدستور المصري:

نظرًا لأهمية الزراعة في مجال الاقتصاد، ودورها في تحقيق الاستقلال الاقتصادي بتحقيق الاكتفاء الذاتي، وبالتالي الاستغناء عن الاستيراد والحاجة للدول المتحكمة في الغذاء العالمي، وبالتالي الاستقلال السياسي والبعد عن التبعية، إلى جانب تلبية الحاجات الأساسية للطعام؛ فقد اعتنت كل الدساتير بذكر الزراعة كحق من الحقوق لكل المواطنين، وعلى كونها واجب من واجبات الدولة تلتزم به، بل هو مقدَّم على غيره من الواجبات، وآخرها الدستور المصري الأخير الصادر في عام 2014م.

ففي باب الحقوق والحريات والواجبات العامة من دستور عام 2014م جاء في المادة 79: (لكلِّ مواطن الحق في غذاء صحي وكاف، وماء نظيف. وتلتزم الدولة بتأمين الموارد الغذائية للمواطنين كافة، كما تكفل السيادة الغذائية بشكلٍ مستدامٍ، وتضمن الحفاظ على التنوع البيولوجي الزراعي، وأصناف النباتات المحلية؛ للحفاظ على حقوق الأجيال القادمة).

وتعد الزراعة من المقومات الاقتصادية التي حددها الدستور المصري المعدل لعام 2014م، وعليه: (تلتزم الدولة بحماية الرقعة الزراعية وزيادتها، وتجريم الاعتداء عليها، كما تلتزم بتنمية الريف ورفع مستوى معيشة سكانه، وحمايتهم من المخاطر البيئية، وتعمل على تنمية الإنتاج الزراعي والحيواني، وتشجيع الصناعات التي تقوم عليها. وتلتزم الدولة بتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعي والحيواني، وشراء المحاصيل الأساسية بسعر مناسب يحقق هامش ربح للفلاح؛ وذلك بالاتفاق مع الاتحادات والنقابات والجمعيات الزراعية، كما تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الأراضي المستصلحة لصغار الفلاحين وشباب الخريجين، وحماية الفلاح والعامل الزراعي من الاستغلال، وذلك كله على النحو الذي ينظمه القانون. 

وقد جَرَّم القانون العديد من مظاهر الاعتداء على الأراضي الزراعية والمزروعات والأشجار حماية لها، ومِن ذلك:

- تجريم تجريف الأرض الزراعية:

حيث يعد تجريفًا: إزالة أي جزءٍ من الطبقة السطحية للأرض الزراعية أو نقل التربة، وفي هذه الحالة تصادر جميع وسائل النقل والآلات المستخدمة في التجريف، مع فرض عقوبة على المخالف؛ سواء كان المالك أو المشتري أو الحائز لتلك التربة.

ويُعَاقَب كلُّ مَن يخالِف بالحبس والغرامة التي لا تقل عن 10 آلاف جنيه، ولا تزيد عن 50 ألف جنيه عن كلِّ فدان. وفي جميع الأحوال تعدد العقوبات بتعدد المخالفات.

- تجريم تبوير الأرض الزراعية:   

حيث يحظر القانون على مالك الأرض الزراعية أو نائبه أو المستأجر أو الحائز أن يترك الأرض الزراعية دون زراعة لمدة 6 أشهر من آخر زراعة. وفرض القانون عقوبة الحبس والغرامة على المخالف.

- تجريم البناء على الأرض الزراعية:

يحظر القانون البناء على الأرض الزراعية أو تقسيمها، وقد فرض القانون عقوبة على كل من يخالف هذا الحظر، وهي: الحبس والغرامة، وتتعدد العقوبات بتعدد المخالفات مع إزالة جميع التعديات على نفقة المخالف.

تجريم إقامة مصنع أو قمينة طوب على الأرض الزراعية:

حيث يجرِّم القانون إقامة أي مصنع أو قمائن طوب على الأراضي الزراعية، وفرض على المخالف عقوبة الحبس والغرامة، مع الحكم بإزالة المصنع على نفقة المخالف.

- تجريم إنشاء المزارع السمكية في الأراضي الصالحة للزراعة:

حيث يحظر القانون إقامة أو إنشاء أي مزارع سمكية في الأراضي الصالحة للزراعة، ويجوز في الأراضي الصحراوية أو الأراضي البور غير الصالحة للزراعة.

ولحماية المزروعات:

 - يجرِّم القانون إتلاف المزروعات، وقطع الخضرة الثابتة في الأماكن المخصصة للمنفعة العامة.

ولحماية الأشجار:

 - اهتم قانون البيئة بالتشجير؛ حيث ألزم الجهات الإدارية بالمدن والقرى بتخصيص مساحة لا تقل عن ألف متر مربع من أراضي الدولة في كلِّ حيٍّ وقرية لإقامة مشتل إنتاج أشجار، على أن يباع منتجاته للأفراد بسعر التكلفة.

- وقد ألحق قانون البيئة جرائم قطع وإتلاف الأشجار بقانون العقوبات؛ بغرض الحدِّ منها، حيث تضمن قانون العقوبات بعض الجرائم التي تُعَدُّ اعتداءً على الأشجار، وفَرَضَ عقوباتٍ عليها.