الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الجمعة 13 أغسطس 2021 - 5 محرم 1443هـ

والذين أوتوا العلم درجات

كتبه/ أحمد حسين  

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

هذا نص من العليم الخبير في درجات أهل فهم، مع شرفهم وفضلهم ليسوا سواء، فالفقيه يختلف عن القاضي، يختلف عن المفتي.

فمِن الفروق المقرَّرة عند أهل الأصول بين القاضي والمفتي، هو لزوم الحكم من جهة القاضي، وعدم لزومه من جهة المفتي، فينبغي على طالب العلم فضلًا عن آحاد الناس أن يعلم: أيهما أحق أن يسأل ويستفتى، فالعبرة ليست بالمناصب مع أهميتها، ولكن بالعلم، فلا ينبغي أن يرفع أحدٌ فوق أحدٍ، ويسمع له دون غيره؛ فضلًا أن يتبع إلا بالعلم والورع، فكما قال الأعمش -رحمه الله-: "‏أَهْلَكَ الناسَ رجلان: نِصْفُ عالِم، ونِصفُ طبيب! هذا يهلك الأبدان، وذاك يهلك الأديان"، فينبغي عليك أن تفرِّق بين أهل العلم ومَن دونهم، فقديمًا كان القصاص والواعظ، والفقيه، والقاضي والمفتي، ولكلٍّ درجته؛ لأن الأحكام تتغير بتغير أحد الثلاثة: (الفقيه - المفتي - القاضي).

فمِن الخطأ إلزام المفتي بما قاله أحد الفقهاء، ومن الخطأ إلزام القاضي بفتوى المفتي (القائل بأحد أقوال العلماء) ما لم تكن المسألة مجمعًا عليها، فيلزم الجميع القول بالإجماع، فمع أن الإجماع ليس حجة قائمة بذاتها، ولكن ما دام هناك إجماع معتبر، فهناك دليل صحة لهذا القول دون غيره وإن لم يُذْكَر.

وعلى ذلك نقول:

1- الفقيه: يستنبط أحكام الله -تعالى- من الأدلة التفصيلية، وتلك الأحكام تحقق مقاصد الشريعة الكلية، كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "الفقيه حق الفقيه: مَن لم يُقنِّط النَّاس من رحمة الله، ولم يرخِّص لهم في معاصي الله، ولم يؤمِّنهم من عذاب الله".

وهناك ثمَّ شروط لابد من توافرها بالفقيه، نذكر منها:

- معرفة كتاب الله فهمًا وحفظًا واستحضارًا.

- العلم بالسنة النبوية، ويشمل ذلك: الحديث الصحيح، والحسن، والضعيف.

- العلم بالإجماع؛ لأنه من طرق الاستدلال.

- العلم باللغة العربية لمعرفة الوحيين واستخراج الأحكام منهما عن طريق الفهم الصحيح للنصوص.

- العلم بالمقاصد الشرعية في التشريع الإسلامي.

- معرفة أقوال الصحابة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

- العلم بالقياس ضبطًا واستدلالًا.

- العلم بالقواعد الفقهية الكلية والجزئية.

فهذه شروط أصلية، وهناك أمور ثانوية ينبغي معرفتها في ذلك، ومنها:

- تقدير المصالح  والمفاسد، وتغير الأحوال والنظر للمآلات.

- معرفة أقوال المجتهدين وأصول الاستدلال عندهم، والقواعد المتبعة في ذلك، وطريقتهم في التعامل مع القضايا النادرة الحدوث.

 2- أما المفتي: فهو في اللغـة: اسـم فاعل مِن أفتـى، فمَن أفتى مـرة فهو مفـتٍ، ولكنه يحمل في العرف الشـرعي بمعنى أخص من ذلك، قال الصيرفي: "هذا الاسم موضـوع لمَن قـام للناس بأمـر دينهم، وعلم جُمـل عموم القـرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك السُنن والاستنباط، ولم يوضع لمَن علم مسألة وأدرك حقيقتها".

والمفتـي بناءً على ما سبق هو: المجيب عن أسئلة المستفتي، والكاشـف لحكم الله -تعالى- في المسألة -، والمظهر لما خفي من أمورٍ ومعانٍ في الأدلة.

وفي الاصطلاح: عُرِّف بأنه هو المخبر بحكم الله -تعالى- لمعرفة دليله.

وعرفه ابن السمعاني بأنه: مَن استكملت فيه ثلاث شرائط: الاجتهاد، والعدالة، والكف عن الترخيص والتساهل؛ فهو يدرس الواقع ثم يلتفت إلى الفقه ليأخذ منه حكم الله -تعالى- في الواقعة التي سُئِل عنها بما يحقق مقاصد الشريعة، فيجمع بين إدراك الفقه، وإدراك الواقع.

3- القاضي: في اللغة: القضاء مشتق من الفعل قضى، وقضى له في اللغة معانٍ عديدة، فقد جاء لفظ القضاء بمعنى الحكم، والقضاء على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، وكل ما أحكم عمله، أو تم إنجازه، أو أدي أداءً، أو أوجب أو أعلم أو أنفذ أو أمضي، فقد قضي فيأتي بمعنى الخلق، ومنه قوله: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (فصلت:12)، وبمعنى الحكم، ومنه: قوله -تعالى-: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طه:72)، وبمعنى الفراغ، ومنه قوله: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) (يوسف: 41)، وبمعنى الإرادة، يدل عليه قوله -تعالى-: (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:47)، وهناك معانٍ أخرى يطول الكلام فيها؛ إلا أنه يجدر الإشارة إلى أن كل هذه المعاني لا تخلو من الفصل وحسم الأمر وإنجازه.

ثانيًا: في الاصطلاح:

إن المتتبع لتعريفات الفقهاء للقضاء يجد أنهم قد اختلفوا في ذلك؛ وربما يرجع هذا الاختلاف إلى اختلافهم في حقيقة القضاء: هل هو عمل أو فعل يقوم به القاضي، أم أنه صفة حكمية تلازم موصوفها وتوجب نفاذ حكمه؟ كما أنهم اختلفوا هل القضاء يختص بالمنازعات أم يشملها وغيرها؟ فضلًا عن أن هناك شبهًا بين الفتيا والقضاء إلى درجة كبيرة، وإليك بعض هذه التعريفات لنخرج بعدها بتعريف جامع مانع للقضاء.

عَرَّف الحنفية القضاء بأنه: "فصل الخصومات وقطع المنازعات"، فإنه يتدخل لتغيير الواقع، ويلزم أطراف النزاع بما عليه حكم الله -تعالى-، وقد تتشابك تلك الوظائف بعضها مع بعض، فيقوم القاضي بدور الفقيه أو المفتي، ويقوم الفقيه بدور المفتي؛ إلا أنه سيظل هناك فرق بين تلك المعاني ووظائف القائمين عليها.

وعَرَّف المالكية القضاء بأنه: "الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام".

أما الشافعية فكان تعريفهم للقضاء: "فصل الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله -تعالى-".

وأما الحنابلة فعرَّفوا القضاء بأنه: "تبيينه والإلزام به، وفصل الحكومات".

وجميع التعريفات السابقة لا تخلو من اعتراضٍ؛ سواء لكونها غير جامعة؛ لعدم شمولها للتحكيم كما في تعريف الحنفية أو الشافعية، أو لكونها مجرد إخبار وتبيين وليس إنشاءً كتعريف المالكية والحنابلة.

ومن خلال ما سبق يمكن تعريف القضاء بأنه: "عبارة عن مجموعة من النظم والقوانين الشرعية التي سنها الإسلام للفصل والحكم بين الناس في خصوماتهم".

وهذه النظم والقوانين مستمدة من كتاب الله -تعالى- ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم مِن إجماع المسلمين وقياساتهم واجتهاداتهم في العصور الأولى للإسلام، وما يمكن أن تصل إليه اجتهادات المجتهدين في كل زمان؛ تحقيقًا لمبدأ العدالة الذي يهدف إليه القضاء.

ويمكن تلخيص ما هنالك فيما يلي:

فالفقيه مثلًا يقول: إن الخمر حرام؛ لقوله -تعالى-: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (المائدة:90)، فهو يعلم حكم الله في الخمر وأدلة ذلك، والشبهات التي قد ترد على الحكم، والمقيس على الخمر مِن قياس شبه وقياس أولى.

والمفتي يقول للمضطر بعد أن عرف حاله وطبَّق القاعدة الشرعية بوجوب ارتكاب أخف الضررين ودفع أشد المفسدتين، وبيان حاله كمضطر لحفظ النفس المشرفة على الهلاك، وكون حفظ النفس مقدَّم على حفظ العقل: "اشرب الخمر مع حرمتها حتى لا تهلك".

والقاضي يقيم الحد على مَن شرب الخمر، ولا يقيمه على المضطر ويحكم بإراقة الخمر.

وبهذا تَبَيَّن لنا الفروق الدقيقة بين المفتي وغيره؛ إلا أننا في عصرنا الحاضر وجدنا اختلاطًا كبيرًا بين من يقوم بالإفتاء، والوعظ والتدريس، وخطبة الجمعة، فكل هؤلاء قاموا بالإفتاء فوقعوا في الاختلاف غير المقبول؛ مما أوقع الناس في الحيرة الشديدة التي نراها اليوم ونلمسها جميعًا.

والأصل في الإفتاء أنه غير ملزم؛ وذلك لأنه مرتبط بصورة معينة قد لا تتكرر؛ ولأنه ليس حكمًا صادرًا من قاضٍ، لكنه مع ذلك ملزم دينًا للسائل الذي تعيَّن له مَن يفتيه، وينبغي ألا يكرر السؤال بين مفتيين مختلفين فيحدث له اضطراب عند اختلافهم في الفتوى فينبغي على كلِّ عاقل أن يعرض عن ذلك ما لم يكن أهل لها، وعلى الناس الرجوع إلى العلماء الربانيين ومثلهم لا يخفون على مَن أراد معرفة الحق وطلبه، وعزم على التزامه، لا مَن تتبع الشبهات والزلات، وحاك الإثم في صدره وتردد، فبحث عمَّن يهلكه!

عافانا الله وإياكم، وعرفنا الحق ورزقنا اتباعه، وعرفنا الباطل وجنبنا سبيله، إنه هو ولي ذلك والقادر عليه.