الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 28 يونيو 2021 - 18 ذو القعدة 1442هـ

نجاح في أصعب امتحان!

كتبه/ جمال فتح الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالدنيا دار ابتلاء وامتحان، نزل لآدم -عليه السلام- إليها عقوبة، وهذه سنن كونية قدَّرها مالك الملك -سبحانه وتعالى-، فكل مخلوق لابد أن يبتلى ويمتحن في هذه الدار الدنيا، وتختلف ردود الأفعال من المخلوق حسب ما وقر في قلبه من إيمان ويقين، وحسن توكل على الله، قال -تعالى-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك: 2).

فامتن الله على الخلق بإرسال الأنبياء وإنزال الكتب، فالذي صَدَّق وآمن نجا وأفلح، والذي كذب وكفر خاب وخسر، والابتلاء متنوع، ويختلف بعضه عن بعض، ربما مرض أو فقر أو غنى، أو منصب وجاه، أو بعض الناس ببعض.

ولنا في الأنبياء الأسوة والقدوة الحسنة، فجميع الأنبياء ابتلاهم الله -عز وجل- ونجحوا نجاحًا باهرًا في جميع المواقف بعد الأخذ بالأسباب، وحسن التوكل على الله، ولنا في قصة إسماعيل -عليه السلام- العِبْرَة والعظة مع أبيه أبي الأنبياء -عليه السلام-.

إسماعيل ابن سيدنا إبراهيم -عليه السلام-، وأمه هاجر خرج بهما إبراهيم -عليه السلام- إلى مكة، وكان إسماعيل رضيعًا، وأسكنهما هناك في مكان لا يوجد فيه إنس ولا ماء، وكان إبراهيم يتردد عليهما في مكة، وقد رأى إبراهيم -عليه السلام- في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل، وعزم فعلًا على تنفيذ هذه الرؤيا، ولكن الله -تعالى- فَدَاه بذبح عظيم -كما سنبيِّن-.

إسماعيل هو دعوة أبيه إبراهيم -عليه السلام-، قال -تعالى-: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 100)، وكان هذا الدعاء من إبراهيم بعد أن أنجاه الله من كيد الكافرين ببابل، فدعا الله أن يرزقه الله ولدًا صالحًا يعينه على الدعوة إلى الله فبشَّره الله بغلام حليم، من أجمل الصفات في هذا الغلام أنه حليم، أي: متسع الصدر، حسن الصبر، صفات يجب أن تتوفر في الداعية إلى الله، وفي الشباب المسلم، قال -تعالى-: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات: 102)، أي: فلما بلغ إسماعيل السن التي يقدر فيها السعي والعمل، قال له أبوه إبراهيم: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)، أي: فانظر: هل تصبر على إمضائي أمر الرؤيا؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، وما رأيته يعتبر أمرًا لي بذبحك أو لا تصبر؟

أحسن جواب قاله إسماعيل: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

وأنا والله لا أدرى بأيهما أكثر إعجابًا: بالوالد الذي يكلفه ربه بأمر لا تكاد تطيقه النفس البشرية إلا نفس إبراهيم، يكلفه ربه بأن يذبح بيده ابنه الوحيد الذي رزقه الله به وهو في كبر سنه وشيخوخته، أم أنا أكثر إعجابًا بهذا الفتى النجيب الذي يقول له أبوه: إني مكلف بذبحك فانظر ماذا تقول؟ وماذا ترى؟ هكذا بكل بساطة يطرح إبراهيم المسألة على ابنه، فيقول هذا الفتى الحليم مناديًا أباه باسم الأبوة: (يَا أَبَتِ)، لم تتغير بعينه الصورة ولا العلاقة مع أبيه، لماذا؟ لأنه أبوه ولو كان يستشيره في ذبحه، ولم يكتفِ إسماعيل بالقبول ساكتًا، ولم يبدِ تذمرًا ولا اعتراضًا، ولا سؤالًا في أمرٍ خطيرٍ كهذا الأمر، وهو ذبحه دون جناية اقترفها، ولا عقوق نحو والده ارتكبه، ولا عصيان لربه، بل أكثر من ذلك، أراد هذا الفتى المسلم العظيم أن يشجِّع أباه على المضي فيما هو قادم عليه وهو ذبحه، بتذكيره بأنه ينفذ أمر الله، وأمر الله على الرأس والعين.

ثم أراد إسماعيل أن يزيد والده تشجيعًا ويزيل ما قد يعتريه من قلق لما قد يظنه فيه من جزع، وقلة صبر، فقال له: (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فكأنه يقول لأبيه: امضِ يا أبت لتنفيذ ما أُمِرت به، فإني بمعونة الله سأكون صابرًا، إنه لم ينسِب لنفسه القوة والصبر، وإنما عَلَّق ذلك على مشيئة الخالق العظيم الذي يتطلع إلى عونه وتصبيره على هذا البلاء، حتى يتم أبوه ما كُلِّف به.

وبعد هذه المحاورة القصيرة الحاسمة بين أبي الأنبياء وبين ابنه البار الحليم: التي كشفت عن استسلام الاثنين استسلامًا مطلقًا، وانقيادًا تامًّا لله رب العالمين، لم يعد إبراهيم ينظر إلى ابنه نظرته الأولى له، ابنًا حبيبًا؛ لأن إبراهيم كان ينظر في تلك اللحظات إلى الذي تخللت محبته شغاف قلبه فلم تزاحمها محبته لولده.

إنه كان ينظر إلى مَن اتخذه خليلًا من دون العالمين، وإنه كان ينظر إلى ربه الودود الذي يأمره بذبح ولده بيده، وصدق المحبة يظهر عند تنفيذ ما اُمر به المحبوب، فصار إسماعيل ولده الوحيد في نظره كشاةٍ يريد أن يذبحها قربانًا لله رب العالمين.

وبدأ التنفيذ الذي يصوِّره لنا القرآن العظيم:

يقول ربنا -جل جلاله-: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (الصافات: 103)، أي: صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض، وهو أحد جانبي الجبهة.

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "(وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي: صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه؛ ليكون أهون عليه".

إيقاف التنفيذ وتقديم الفداء:

فلما تم إضجاع الولد إسماعيل، وهوى إبراهيم على ابنه والسكين بيده ليذبحه جاءه الأمر بإيقاف التنفيذ؛ لأن المقصود قد تحقق، وهو: محبة الله ما زالت متمكنة من قلب إبراهيم -عليه السلام-، فلا داعي للذبح، قال -تعالى-: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات: 104-105)، جاءه النداء من رب العالمين: (يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا)، أي: حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح وعزمك على ذبحه، وبهذا ظهر وانكشف انقيادك وانقياد ولدك لأمر الله، وكمال طاعتكما لله رب العالمين، فلا حاجة للذبح.

(إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي: هكذا نصرف عمن أطاعنا، المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجًا ومخرجًا، وقد نجح الوالد وولده في هذا الامتحان الصعب الذي استحق به أن فداه الله (بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي: بكبش عظيم لعظمه وسمنه، قصة إسماعيل قصة شاب مسلم آمن بالله، امتحن امتحانًا شديدًا بأن يموت ذبحًا على يد أبيه، فصبر واستسلم لأمر الله، فيجب أن يكون هذا الشاب أسوة وقدوة حسنة لكل شباب المسلمين الذين آمنوا بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

فاللهم ثبِّت شباب المسلمين، والحمد لله رب العالمين.